والسبب الثاني : أن الحكماء نجعتهم الأمور الكلية. فلا يعجبهم رأي ينخرم بعض جوانبه. ووجه الدلالة في الأقسام مع ظهوره في بعض الأمثلة كان خفياً في بعضها. ولما لم يتبين لهم وجه الدلالة فيه زعموا أن هذه الكلية لا تصح هاهنا.
وليس من دأب أكثرهم أن يقروا بالعجز ويحولوا العلم إلى الله تعالى، كما ترى ذلك في مسألة نظم القرآن. فإنه ظاهر واضح في أكثر المواضع ولم يشكل كل الإشكال إلا في قليل. فلو اعترفوا بالجهل، كما فعل بعضهم، لكان حرياً بهم. لكن تراهم لم يعتمدوا على وجود النظم. وإنما أرادوا بذلك أنه ليس كلياً، فظن العوام أن لا نظم في القرآن، وكلها اقتضاب.
والصواب أن نتحرى في كل أمر ما هو الأولى والأحسن، وقد دلت عليه دلائله، وبدت مخايله، وترجح جانبه، وتوضح لاحبه، ونكون كما قال تعالى :( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).
فإن أشكل علينا بعض وجوهه نسبناه إلى قلة علمنا، وسيجعل الله يسراً بعد عسر، وجبراً بعد كسر، والعلوم متزايدة، والله يهدي من يشاء.
فمحض غموض جهة الاستدلال في بعض الأقسام لا يصرفنا إلى رأي باطل مع سخافته. ألا ترى الآيات الدالة ليست كلها ظاهرة الدلالة بحيث لا تحتاج إلى تأمل. والقرآن صرح بذلك وندب إلى التفكر والتدبر فيها. بل صرح بأنها لا يفهمها إلا العاقلون المتقون، كما جاء كثيراً في القرآن والصحف الأولى. ومع ذلك لا نشك في أنها دلائل قاطعة وحجج ساطعة. فهذا التحري هو الخطوة الأولى للتأمل وإعمال العقل حتى تنحل الإشكالات ويطمئن القلب بعد العلم.
وإني بحمد الله تعالى لم أطمئن لهذا الرأي إلا بعد أن تأملت في جميع أقسام القرآن، حتى تبين لي أنها دلائل. ولم يدلني عليه إلا القرآن من وجوه عديدة كما مر ذكرها آنفاً.


الصفحة التالية
Icon