والسبب الثالث : وهو مدار الأولين، أنهم لما وجدوا القسم بالله تعالى وشعائره شائعاً غلب على ظنهم أن ذلك أصله. فإذا وجدوا القسم بغيره جعلوه مجازاً. ثم رأوا أن المجاز لا يصار إليه إلا إذا تعذرت الحقيقة.
ولكن محض الكثرة ليس دليل الأصلية، ولا المصير إلى المجاز مشروط بتعذر الحقيقة. بل الصواب أن تأخذ من المعاني ما هو أحسن وأحرى، وأشبه بالسياق، وما له نظائر في باقي الكلام.
فلما جعلوا الفرع أصلاً خفي عليهم حقيقة معنى القسم بالشيء، وهو الإشهاد به. فقولهم في بعض الأقسام إنها دلائل لم يكن إلا لشدة وضوح هذا المراد فيها. كأن القرآن دعاهم بصوت جهوري وجذبهم ببطش قسوري إلى صحيح معناه. ومع ذلك هم على الظن الأول. فلم يكن الخفاء من جهة القرآن بل من بعض الظن منهم عفا الله عنهم.
والسبب الرابع : شهرة بعض أمور ذات وجوه على وجه خاص، مثل قصة هلاك فرعون وقومه. فإن المشهور أنهم أهلكوا بمحض الماء، ولا يرون فيه دخلاً للريح. وحقيقة الأمر أنه كان من عجائب تصاريفها بأمر ربها. وهكذا الأمر في طوفان نوح عليه السلام، كما بيناه في تفسير سورة الذاريات. فأينما كانت المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه منوطة ببعض الوجوه، خفي وجه الاستدلال على من خفي عليه ذلك الوجه. ولما لم يكن تفصيل هذا القصص من مهمات العقائد والأحكام لم يلتفت إليها علماؤنا رحمهم الله تعالى.
والسبب الخامس : وهو يشبه ما قبله، أن علماءنا رحمهم الله تعالى شغلتهم العلوم العقلية والنقلية المشهورة عن علوم هي أكبر منها نفعاً في التفسير، وذلك هو علم لسان أوحي به إلينا وإلى من قبلنا، وتاريخ هذه الأمم السامية، وعلومهم وآدابهم. وإذ هي لا تختص بمسألة القسم لا نبسط القول فيها.
ولا حاجة إلى استقصاء أسباب الخفاء، فليكفنا هذا القدر منها.
(١٧)
ذكر بعض ما في القسم
من أبواب البلاغة ولطائفها


الصفحة التالية
Icon