لعلك تقول : إن كانت هذه الأقسام دلائل لا غير، فلم لم تذكر على أسلوب الاحتجاج الصريح.
فاعلم أن الاستدلال إذا كان على أمور لا تتعلق بها الرغبة والنفرة، مثل ما ترى في العلوم الطبيعية والرياضية أو في تاريخ الأولين على الأكثر، كان ذكر الأدلة فيها أولى بالتصريح. فأما إذا استدللنا على أمور نفسانية يتصادم فيها من القائل والسامع حث واستنكار، وزجر واستكبار، وإلحاح وإصرار، احتجنا إلى إيراد الأدلة على وجوه مختلفة من أساليب الكلام متفاوتة في الوضاحة واللطافة والقوة والحدة.
وربما نبدل الأسلوب لمحض الاجتناب عن ملال السامع أو الرجاء أن ينجح فيه بعض الأساليب أكثر من بعض، كما صرح به القرآن :(انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) وكما فعل إبراهيم عليه السلام مع الذي حاجه في ربه، فترك الإصرار على الدليل الأول، حين لم يفهمه الخصم، وعمد إلى دليل آخر أقرب إلى فهمه :( فبهت الذي كفر).
فهذه جملة الجواب. ثم في أسلوب القسم معان مفيدة للاستدلال مما يفتح عليه من البلاغة أبواباً، ويلقي عليه من المحاسن جلباباً. ونذكر هنا بعض تلك المعاني، وندلك على ما فيه من البلاغة.
الأول: هو إظهار التأكيد والجد في القول، كما ترى في قول المرسلين من النصارى حيث جاء في القرآن :(قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين) أو كما ترى في قوله تعالى :( (والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع* إنه لقول فصل * وما هو بالهزل).
وقد علموا أن الحر المهذب إذا أقسم على أمر فقد بالغ في إظهار الجد منه، ونفى عن نفسه الهزل. ولذلك كثر القسم في أوائل النبوة حتى تبين لهم جده. وقد صرح في المثالين المذكورين. وذلك لخصوصية في أسلوب القسم، لا لأن فيه تعظيماً، كما ترى تأكيد الإثبات والإنكار بأسلوب الاستفهام أو التعجب في أكثر الأسئلة، أو تأكيد التعجب بالنداء كقولك : ياللماء، و:
يالقومي للشباب المسبكر


الصفحة التالية
Icon