والثاني: كون القسم إنشاء. وذلك يبهم طريق الإنكار على الخصم. فإنه إن شاء أنكر جواب القسم، لكونه خبراً، ولكن لا يسنح له أن ينكر نفس القسم، لكونه إنشاء. كما أنه لا يتوجه إلى إنكار الصفة مع أنهما في الحقيقة من الأخبار.
وربما يجمع أقسام القرآن هذين الخبرين، كالقسم بالقرآن المجيد، وباليوم الموعود، وبالمقسمات أمراً، وبالفارقات فرقاً، وبالصافات صفا.
فإن شرحتها رأيت فيها جملتين خبريتين. مثلاً إن الملائكة صافون كالعبيد، وإن الرياح تفرق وتميز حسب أمر الله، وإن لهم يوماً موعوداً، وإن هذا القرآن مجيد. فهذه أخبار أدمجت في الصفات، ثم زيد عليها ما أدرج من القسم. وهي أن هذه الأشياء شواهد ودلائل.
فإن كان ذلك مما ينتبه الخصم لإنكاره، فتارة يصرف الخطاب إلى النهي كقوله تعالى :(يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين).
وتارة يحذف جواب القسم الذي يكون جملة خبرية. فحينئذ يكتفي بالمقسم به، ويبادرهم بكلام آخر مؤيد لما حذف، لكيلا يجد الخصم فرصة لتحويل الإنشاء إلى الخبر فينازع فيه، ولكي يجد الكلام فرصة فيه، فيستمع بعد القسم لما ينتظر جوابه، فيهجم عليه ما يؤيد الاستدلال المقصود من الكلام السابق، كقوله تعالى :(ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق).
فاكتفى بالجملة الإنشائية، واجتنب الخبرية. وقد فرغ عنها بما ذكر في القسم من صفة القرآن. كأنه قيل :(قد شهد القرآن أنه لذكر ونصح لهم). ثم ذكر من خصائلهم ما لا ينكرونها بل يباهون بها، وأشار إلى أن إنكارهم ليس إلا لحميتهم الجاهلية، وجدالهم بالباطل.
ومثل ذلك قوله تعالى :(ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب) أي قد شهد القرآن أنه لنذير مبين من الله تعالى بالبعث، ولكنهم ينكرونه لما يعجبون أن يأتي به منذر منهم.


الصفحة التالية
Icon