فأما إذا كان القسم مما لا ينكرونه لم يحذف الجواب، كقوله تعالى:(حم * والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).
فذكر في القسم ككونه كتاباً مبيناً، وفي الجواب كونه قرآناً عربياً، ولا ينكرون شيئاً منهما. وأما كونه منزلاً من الله تعالى فلم يخبر به كدعوى على حدة، بل جعله أصل الكلام بما خاطبهم بنفسه، فلا يتجه الإنكار إليه.
هذا، ولولا كراهية الخروج عن موضوعنا لبسطنا الكلام في حذف جواب القسم وفوائده. وذكره تحت آيات القسم أولى.
والثالث : إيجاز هذا الأسلوب للاستدلال. فإن اللفظ إذا قل يتراءى المعنى متجرداً عن حجبه، فيزيده تنويراً وتأثيراً، كأنه أرهف حده، وقرب بعده. وهذا مما يجعل الاستعارة أحياناً أبلغ من التشبيه. ولا حاجة إلى توضيح حسن الإيجاز فإنه مبسوط في كتب البلاغة.
وقد بالغ في استحسانه بعض كتاب زماننا، فقال: إن الإيجاز لهو البلاغة، وتكلف في رد جميع المحاسن إليه. وإنما جعله أصل البلاغة لتشعب أفنانه، وتقلب ألوانه. فلم يدخل باباً من أبواب البلاغة، إلا ورأى الإيجاز هناك موجوداً، فقصر النظر عليه.
ومن فوائد الإيجاز أنه يمكنك أن تجمع دلائل عديدة في قرب بعضها من بعض. فإذا دللن على أمر واحد من جهات مختلفة كن أشد أثراً، وأحكم أمراً، كما ترى في أقسام سور الطور والبلد والتين. فلو فصل فيها الكلام وشرح الأدلة لتشتت النظام ووهنت قوته. ويقرب منها أقسام سور الفجر والشمس والليل.
هذا، والعرب لذكائهم وكبرهم كانوا يحبون الإيجاز أكثر من أقوام أخر.. ولذلك لا ترى شيئاً من القرآن إلآ ومعناه أوفر من اللفظ، فإن أطنب قولاً من وجه أوجزه من وجوه أخر. ولذلك لا تنقضي عجائبه.


الصفحة التالية
Icon