والرابع : إشراك السامع في استنباط الدليل، وذلك مما يكسر سورة خصامه. فإنه إذا علم شيئاً بعد التأمل فرح به واهتز له. فإن المتكلم إذا جعل السامع منفعلاً محضاً أتعبه وصار كلامه عليه ثقلاً. وهذا إذا لم يخالف رأيه. فأما إذا خالفه أشمأز منه وسد منه أذنه.
ولذلك ربما يستعمل الاستفهام بدل الإخبار كقولك : ألا ترى ذلك؟ وهل سمعت هذا ؟
أو كما استفهم النبي عليه السلام في خطبة الوداع حيث سألهم : أي بلد هذا ؟ وأي شهر هذا ؟ وأي يوم هذا ؟ فلذلك يجلب الالتفات، وينشط للسمع.
وقد جمع القرآن هذين الأمرين في أول سورة الفجر، فأشهد بأمور تدعو الفكر إلى استنباط الدلائل على تدبير الله تعالى وتقديره وعدله. ثم أتبع ذلك بقوله :(هل في ذلك قسم لذي حجر) ومثل ذلك قوله تعالى :(والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق* النجم الثاقب).
ورب مستدل حاذق يسوق المخاطب إلى الدعوى بسهولة من غير تسفيه رأيه، حتى يظن أنه هو الذي اهتدى إليها من قبل نفسه. وهذا مما يصير الكناية أحياناً أبلغ من التصريح.
وترى ذلك بيناً في أقسام القرآن فإنها تعرض على السامع أمراً يدعوه إلى استعمال عقله. وربما تسوقه إلى سمت الدعوى بلطافة وتدريج. كالقسم بالذاريات حتى انتهى إلى قوله :(فالمقسمات أمرا). ومثل ذلك قسمه بالمرسلات عرفاً حتى انتهى إلى قوله:(فالفارقات فرقاً * فالملقيات ذكر* عذراً أو نذرا). فلو ألقي عليه أولاً أن الرياح تفرق بين قوم وقوم أنكر ذلك.
والخامس : وضع الدليل في غير صورته، لكيلا يبادر المنكر إلى المخاصمة. وذلك غير معنى الإنشاء الذي مر آنفاً في الوجه الثاني، فإنه يسد باب الإنكار. وهذا إنما يذهل عن الخصام. لكونه غير الإنشاء تجده باقياً في صورة الخبر أيضاً.


الصفحة التالية
Icon