مثلاً إن حولت قوله تعالى :(والعصر * إن الإنسان لفي خسر) وجدت بعد هذا التحويل من الإنشاء إلى الخبر أيضاً فرقاً واضحاً بينه وبين صريح الاستدلال. وهو أن تقول: إن الإنسان لفي خسر ؛ لأن مر الزمان ينقص العمر، فإن هذا الاستدلال مع صحته وظهوره يدعو الخصم لحبه الجدل إلى الإنكار به. أو بالذي ينتج منه : وهو الاعتماد على الإيمان والعمل الصالح. فإنه سيقول : كلا، إن الإنسان لفي ربح عظيم، فإنه يشتري اللذائذ ويقتني المنى، بهذا العمر الذي لا بد أن يفنى. أو سيقول : كلا، فإنه إذ لا بد من البلى، فالتمتع بالشهوات أولى، كما قال الملك الضليل بن حجر القتيل:
تمتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنساء الحسان
ولا شك أن تلك حجة داحضة. ولكن إذا فتح باب الجدال، كثر القيل والقال. وكلما زدت إيضاحاً، ازداد الخصم جماحاً. فيحسن أحياناً أن تذهله عن وجه النزاع، فإن للإنسان به ضراوة كضراوة السباع.
وكانت العرب أشد الأمم جدلاً، وأحدهم مقولاً، كما قال تعالى :(ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون). وكذلك سماهم :(قوماً لدا).
واعلم أن هذا الوجه والذي قبله، مبنيان على لطافة الأدلة في الأقسام، فإنه كما تصرفهم عن الإنكار والنزاع، فكذلك تنشطهم للفكر والاستنباط.
والسادس : ما يعطي أوائل السور من نضرة بهجتها، ورونق ديباجتها. فتلمع الأقسام في قسمات السور على الأكثر كالغرة البارقة، وأما الذي جاء في أثناء السورة فإنما هو قليل. ومثاله كمجيء المطلع في أثناء القصيدة.
وليس في كل قسم تزيين. ولكنه لما كان مما يستفتح به الكلام، جعله سبباً لتزيين الفواتح بأن اصطفى له كلما إن صور على عنوان الكتاب، أو تمثل للعقل في مطلع الخطاب، ملأ العين والفؤاد بحسنه وجلالته. بل يجل أكثرها عن التصوير لكمال عظمتها وضيق نطاق الخيال عن سعتها.


الصفحة التالية
Icon