ولا شيء من أساليب الكلام أصلح للتصوير من القسم. فإن الذي أقسمت به دعوته كالشاهد، فأوقفته بين يدي المخاطب متمثلاً.
فلما أراد الله أن يوشي عنوان السور بألوان الصور بدأها بأقسام خاصة: فترى أحياناً صورة أمر واحد كالقلم الكاتب والنجم الثاقب والخيل العاديات والرياح الذاريات والملائكة الصافات.
وتنظر أخرى إلى صور عديدة يضمها أمر جامع بينها كالتين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين، أو كالطور والكتاب المسطور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور، أو كالشمس والقمر والليل والنهار والأرض والسماء والنفس وغير ذلك، مما يدل على أحوال أو أحداث يستدل بها على مسألة مهمة.
ولا منزلة عند العقل لهذه التصاوير لولا أن فيها دلائل على أمور عظيمة. وهذا لرعاية جانب المستمع لكيلا يتنفر، فيسد أذنيه. ومن كمال التبليغ وإتمام الحجة تليين القول وتأليف القلب. وقد أمر الله الأنبياء بهذا، كما قال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون:(فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى).
والسابع: تقديم الدليل على ذكر الدعوى. فيلقي أولاً على الخصم أمراً يوجهه إلى سمت لا بد أن يجلبه إلى الدعوى. ولكن المنكر إذا علم من قبل ما تريد الاستدلال عليه أخذ سمتاً آخر، وتنكب عن الوجه الصحيح. فإذا لم تذكر الدعوى يوشك أن يتوجه إلى صراط مستقيم. فإذا سار على قصد السبيل قدته إلى آخر النتيجة. ومثال ذلك كل ما ذكرنا في الوجه الرابع والخامس.
والثامن : كون القسم من جوامع الكلم. فإن المقسم به لا يذكر معه جهة الاستدلال. فلو ضم به جهة خاصة كان دليلاً واحداً، ولكن الشيء الواحد يجمع معاني كثيرة ووجوهاً مختلفة. وللمتوسم فيه دلائل شتى.


الصفحة التالية
Icon