وهذا الأمر مشترك في ما ذكر من الأمور الدالة على أسلوب الآية، فجعل شيئاً واحداً موضعاً لا ستنباط دلائل كثيرة. كما قال تعالى :(ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) وكما قال تعالى :(وفي الأرض آيات للموقنين* وفي أنفسكم أفلا تبصرون). فمن يحصي ما في الأرض والنفس من الآيات الدالة على القدرة والعظمة والرحمة والحكمة ثم على التوحيد والرسالة والمعاد، كما فصلناه في كتاب (حُجج القرآن).
فإذا أشهد الله تعالى بعض خلقه، ثم ذكر معه من المطالب الدينية التي يستدل عليها، ترك المتأمل أن يستنبط الدلائل من وجوه كثيرة.
وبعد الاتفاق في المستدل عليه وبعد رعاية نظام الكلام، لا بأس باختلاف الدلائل وطرقها، فإنها تتنوع وتتكثر حسب مدارج الأفهام والعقول. وجعل الله القرآن جم الفوائد لا تنقضي عجائبه، كما لا تنقضي عجائب خلقه وحكمة صنعه. قال عز من قائل: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم). ولنكتف بهذا القدر من أبواب البلاغة التي تجد في أقسام القرآن، وما أردت الاستقصاء، ومن يطيقه؟
وقد تبين مما مر معنا معنى القسم، ووجوهه، وبذلك انحسمت الشبهتان الأخيرتان المهمتان. وأما الشبهة الأولى فاضمحلت أيضاً لما ذكرنا من حاجة الناس إلى القسم وضرورته في عزائم الأمور وموقعه في التعايش والتعاشر بين الأمم والملوك والرعايا، كما مر في الفصل السادس والعاشر.
وقد تبين ورد القسم كثيراً في الكتب المقدسة وكلام الرؤساء والبلغاء، فلم يبق الآن إلا تبيين علة النهي عنه.
(١٨)
الفرق بين ما يحسن وما لا يحسن من القسم
لما كان في القسم إما إشهاد بنفس المتكلم، أو إشهاد بالله تعالى، وفي ذلك مخاطرة المرء بعزه وبدينه، لم يحسن التلاعب به. فيتجه النهي إليه من ثلاث جهات.
إما من جهة المقسم عليه.
أو من جهة المقسم به.


الصفحة التالية
Icon