قد علمنا، وقد اعترف علماء المسيحيين بأن أصل الإنجيل مفقود، وإنما في أيدينا تراجم اختلط فيها أقوال المسيح وأقوال الرواة، والروايات مختلفة ربما يضاد بعضها بعضاً مع اضطراب المتون وعدم السند فضلاً عن الاتصال والصحة. فالالتفات إليها والتعرض لها ليس إلا على تقدير التسليم وعلى سبيل التنزل.
فاعلم أن النهي عن الحلف جاء في الخطبة المعروفة بالخطبة الجبلية المذكورة في الانجيل المنسوب إلى (مَتَّى) ببعض البسط. ولا توجد في (مرقس) ولا في (يوحنَّا) ما خلا بعض الفقرات منها. وجاءت في (لوقا) مختصرة، ولاختصاره اخترته مأخذاً لا قتباسي.
فإن نظرت في هذه الخطبة وتأملت آياتها ومواقعها تبين لك أنه عليه السلام لم يخاطب بها الجمهور، ولم يجعلها شريعة عوض التوراة، بل خص بها تلاميذه وأتباعه لمصلحة عظيمة كما ستعلمها.
أما الدليل على التخصيص فمن وجوه :
الأول: تصريحه عليه السلام بذلك. فإن هذه الخطبة في (مَتَّى) مسبوقة متصلة بقوله :(فلما جلس تقدم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم قائلاً).
وكذلك رواية لوقا تذكر أنه أحيى الليل بالصلاة. ثم إنه دعا تلاميذه، واختار منهم اثني عشر، وبعد ذلك تقول : ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال، ثم بدأ الخطبة بقوله :
(طوبى لكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله، طوبى لكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون... طوبى لكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشرير... ولكن ويل لكم أيها الأغنياء ؛ لأنكم قد نلتم عزاءكم، ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون، ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون).


الصفحة التالية
Icon