وهذا لا يبدل باقي الكلام الذي فيه الخطاب إلى الفقراء والمساكين من جهة الروح. وإنما حرفوه لأنهم لم يفهموا تأويله. وسيأتيك عن قريب.
فتبين من غير شك أن هذه الأحكام مختصة بأمة قد خلت، وقضت وطرها، وليست بشريعة كاملة يترقى بها الإنسان إلى ذروة الكمال في التمدن وتهذيب النفس، وهي شريعة الإسلام لما فيه من إسلام النفس والمال لله تعالى أولاً، ثم القيام بهما في طاعة الرب، كما قال تعالى :( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) الآية، وذلك مبسوط في موضعه.
فبعد هذا التخصيص لا دليل على نهيه عن اليمين مطلقاً، وقد علمنا عقلاً ونقلاً جوازها والحاجة إليها. ونحن معشر المسلمين نوقر الأنبياء أجمعين، فلا نؤول كلامهم إلى ما يخالف العقل أو يحط الأخلاق.
وهذا يتبين كل التبين مما سنذكر في الفصل الآتي من المصلحة العظيمة التي لأجلها خصهم بهذه الوصايا. وإنما نذكرها بغاية الإيجاز، لأنها من مسائل بسطها يخرجنا عن موضوع هذا الكتاب، وهي مبسوطة في موضعها.
(٢٠)
الحكمة في تخصيص هذه الوصايا بأتباعه
المسيحيون لا حاجة لهم إلى تطبيق النقل بالعقل، فإنهم زعموا أن الدين وراء العقل. ولكن فيهم رجالاً متفلسفين سعوا في حماية الدين عن شين كل ما يشمئز عنه العقل. وهم مع ذلك، بل لذلك عند أئمتهم وعامتهم من الملاحدة. ومنهم اسبنوزا المتفلسف الماهر بالعبرانية.
فقبل أن نبين لك ما هو التأويل عندي، نورد رأي هذا المتفلسف في أمر هذه الوصايا، لتعلم أنه يوافقنا في جعلها مخصوصة لأمة وحالة، ولتعلم الفرق بين أهل العقول من طائفتي المسيحيين والمسلمين، وتعلم أن تأويلنا مع ظهور حجته أكبر تعظيماً للشريعة وصاحبها.


الصفحة التالية
Icon