زعم اسبنوزا أن المسيح عليه السلام إنما أمر أتباعه بأحكام فيها التذلل والخضوع للظالمين، لأنهم كانوا حينئذٍ مقهورين تحت سلطة الجبارين. فأمرهم بأن لا تقاوموا الشر، وتعرضوا الخدود للطمة، وأمثالها، لا لشرافة أو حسن أو تدين فيها، بل لكونها أصلح بحالهم.
فهذا الرجل مع علمه وخوضه في كتب الأنبياء وأحوالهم – أقر بكون هذه الوصايا مخصوصة، ولكنه لم يهتد إلى علة هذا التخصيص، فلئن راعى جانب العقل، فقد أضاع جانب الشريعة الإلهية والمسيح وحوارييه.
وأما نحن فنقول: إن من قرأ نسخ الإنجيل هذه بالتأمل لا يخفى عليه أن المسيح عليه السلام إنما جاء مبشراً بقرب ملكوت الله الظاهر الذي كان عبارة عن سلطة دينية. وقد كان أعطاه الله اليهود، وضيعوه، ثم دارت عليهم الدوائر. وكانوا ينتظرونه مرة أخرى لوعد الله لهم، فبشرهم المسيح بقربه، وعرفه لهم بأمثال كثيرة تطابق مطابقة واضحة نبوة خاتم النبيين.
ولما لم يؤمن به جمهور قومه، وآيسه علماؤهم لقساوة قلوبهم وتعبدهم لزخارف الدنيا، اصطفى من عامتهم البسطاء شرذمة قليلة لم يغلبهم الترف والحرص، لكيلا يعسر عليهم الدخول في ملكوت الله إذا ظهر، وحينئذ يكملون بالشريعة الكاملة. فأمرهم بوصايا تبقيهم على حالة الفقر والمسكنة، ليبقوا على طهارة القلب والتقوى والصبر، ليتوب الله عليهم حسب سنته ووعده، كما هو مبسوط في موضعه.
ولم يكن ذنبهم إلا أنهم أعطوا أموالهم في سبيل الله، وألزموا على أنفسهم الفقر، ولم يتركوا التوراة، وحرموا الخنزير، وأوجبوا الختان، ولم يقولوا بألوهية المسيح، ولم يقبلوا إلا الإنجيل العبراني الذي ضيعه الآخرون، وشنعوا على بولوس الذي بدل النصرانية، وخالف الحواريين، وادعى بأنه تعلم من المسيح في الرؤيا. فلا حاجة له إلى اتباع تلاميذه.


الصفحة التالية
Icon