وَكَذَلِكَ قَالَ هَاهُنَا: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ﴾
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، فَيَزِيدُ هَؤُلَاءِ ضَلَالَةً إِلَى ضَلَالِهِمْ (١) لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا، مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ بِمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ (٢) وَأَنَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ مُوَافِقٌ، فَذَلِكَ (٣) إِضْلَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهِ ﴿وَيَهْدِي بِهِ﴾ يَعْنِي بِالْمَثَلِ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَيَزِيدُهُمْ هُدًى إِلَى هُدَاهُمْ وَإِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ، لِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا أَنَّهُ مُوَافِقٌ مَا (٤) ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا وَإِقْرَارِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ﴾ قال: هم الْمُنَافِقُونَ (٥).
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ﴾ قَالَ: هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ﴾ يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْكَافِرُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ﴾ فَسَقُوا، فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَلَى فِسْقِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حُدّثتُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سِنان، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ يَعْنِي الْخَوَارِجَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي فَقُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ إِنْ صَحَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ عَلَى الْمَعْنَى، لَا أَنَّ (٦) الْآيَةَ أُرِيدَ مِنْهَا التَّنْصِيصُ عَلَى الْخَوَارِجِ، الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عليٍّ بِالنَّهْرَوَانِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا حَالَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ دَاخِلُونَ بِوَصْفِهِمْ فِيهَا مَعَ مَنْ دَخَلَ؛ لِأَنَّهُمْ سُمُّوا خَوَارِجَ لِخُرُوجِهِمْ عَلَى (٧) طَاعَةِ الْإِمَامِ وَالْقِيَامِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَالْفَاسِقُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ أَيْضًا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ: إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا (٨) ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْفَأْرَةِ: فُوَيْسِقَةٌ، لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرها لِلْفَسَادِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسُ فَوَاسَقَ يُقتلن فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ العقور" (٩).

(١) في جـ، ط، ب: "ضلالتهم".
(٢) في جـ، ط، أ: "لما ضربه له".
(٣) في جـ: "فوافق ذلك".
(٤) في جـ، ط: "لما".
(٥) في أ: "أهل النفاق".
(٦) في جـ: "لأن"، وفي ط: "إلا أن".
(٧) في جـ، ط، ب، أ: "عن".
(٨) في أ: "قشرها".
(٩) صحيح البخاري برقم (٣٣١٤) وصحيح مسلم برقم (١١٩٨).


الصفحة التالية
Icon