﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ قَالَ: بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، وَسَبْعُ أَرَضِينَ، يَعْنِي بِعَضَهُنَّ تَحْتَ بَعْضٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ السَّجْدَةِ: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٩-١٢] فَهَذِهِ وَهَذِهِ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ [النَّازِعَاتِ: ٢٧-٣١] قَالُوا: فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (١) : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذَا بِعَيْنِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ وَأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَجَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّازِعَاتِ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّحْيَ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ [النَّازِعَاتِ: ٣٠-٣٢] فَفَسَّرَ الدَّحْيَ بِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ لَمَّا اكْتَمَلَتْ صُورَةُ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ ثُمَّ السَّمَاوِيَّةِ دَحَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْضَ، فَأَخْرَجَتْ مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا مِنَ الْمِيَاهِ، فَنَبَتَتِ النَّبَاتَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَكَذَلِكَ جَرَتْ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ فَدَارَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ -أَيْضًا-مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيج قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلْقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلْقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ" (٢).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَرَائِبِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَجَعَلُوهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبٍ، وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَجَعَلُوهُ (٣) مَرْفُوعًا، وَقَدْ حَرَّرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ (٤).
(٢) تفسير ابن أبي حاتم (١/١٠٣) وصحيح مسلم برقم (٢٧٨٩) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٠١٠).
(٣) في جـ، ط، ب: "فجعله".
(٤) الأسماء والصفات (ص٢٧٦) وللعلامة عبد الرحمن المعلمي كلام متين في تصحيح هذا الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "الأنوار الكاشفة" (ص١٨٥-١٩٠) فليراجع فإنه مهم.