وَالْأَرْضَ، وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَرَّمها؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَلَّغ عَنِ اللَّهِ حُكْمه فِيهَا وَتَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ بَلَدًا حَرَامًا عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبًا عِنْدَ اللَّهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لمنجَدل فِي طِينَتِهِ، وَمَعَ هَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ﴾ وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وقَدَره. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ بَدْءِ أَمْرِكَ. فَقَالَ: "دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَرَأَتْ أُمِّي كَأَنَّهُ (١) خَرَجَ مِنْهَا نور أضاء ت لَهُ قُصُورُ الشَّامِ".
أَيْ: أخْبِرْنا عَنْ بَدْءِ ظُهُورِ أَمْرِكَ. كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ مَكَّة عَلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ، فَتُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَدِلَّتِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَوْلُهُ: تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أَيْ: مِنَ الْخَوْفِ، لَا يَرْعَبُ أَهْلَهُ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى (٢) ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَقَوْلُهُ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ" (٣). وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أَيِ: اجْعَلْ هَذِهِ الْبُقْعَةَ بَلَدًا آمِنًا، وَنَاسَبَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥] وَنَاسَبَ هَذَا هُنَاكَ لِأَنَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَأَنَّهُ وَقَعَ دُعَاءً ثَانِيًا (٤) بَعْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَاسْتِقْرَارِ أَهْلِهِ بِهِ، وَبَعْدَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ الذِي هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْ إِسْمَاعِيلَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٩]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِير﴾ قَالَ: هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ الذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ: وَقَرَأَ آخَرُونَ: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا.

(١) في جـ: "كأنها".
(٢) في جـ: "كما قال الله تعالى"، وفي طـ: "لقوله تعالى".
(٣) صحيح مسلم برقم (١٣٥٦).
(٤) في جـ، طـ، أ: "دعاء مرة ثانية".


الصفحة التالية
Icon