اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيد فِي مَقْصُورَتِهِ (١) :
إمَّا (٢) تَرَى رأسِي حَاكى لونُهُ... طُرَّةَ صُْبحٍ تَحتَ أذْيَال الدُّجى...
واشْتَعَل المُبْيَض فِي مُسْوَدّه... مِثْلَ اشتِعَال النَّارِ في جَمْرِ (٣) الغَضَا...
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ أَيْ: وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ (٤) فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي﴾ : قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ بِنَصْبِ "الْيَاءِ" مِنَ ﴿الْمَوَالِيَ﴾ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ (٥)
وَقَالَ الْآخَرُ:
فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها... أَوِ القَمَرَ السَّاري لألْقَى المقَالدَا...
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ:
تَغَاير الشَّعرُ فِيهِ (٦) إِذْ سَهرت لَهُ حَتَّى ظَنَنْتُ قَوَافِيهِ ستَقتتلُ (٧)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: أَرَادَ بِالْمَوَالِي الْعَصَبَةَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْكَلَالَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَإِنِّي خَفَّت الْمَوَالِي مِنْ وَرَائِي" بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بِمَعْنَى: قَلَّتْ عَصَبَاتِي (٨) مِنْ بَعْدِي.
وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَجْهُ خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا [مِنْ] (٩) بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدَا، يَكُونُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِهِ، لِيَسُوسَهُمْ بِنُبُوَّتِهِ وَمَا يُوحَى إِلَيْهِ. فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى مَالِهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ (١٠) أَنْ يَأْنَفَ (١١) مِنْ وِرَاثَةِ عَصَبَاتِهِ (١٢) لَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَيَحُوزَ (١٣) مِيرَاثَهُ دُونَهُ دُونَهُمْ. هَذَا وَجْهٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ، بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ (١٤) يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجْمَعُ مَالًا وَلَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نُورَث، مَا
(١) انظر: شرح مقصورة ابن دريد (ص٢) أ. هـ. مستفادا من حاشية ط-الشعب.
(٢) في أ: "ما".
(٣) في ت، ف، أ: "جزل".
(٤) في أ: "إجابة".
(٥) الرجز في اللسان مادة (قرق) غير منسوب.
(٦) في ت: "منه".
(٧) البيت في ديوان أبي تمام (٢٢٧) أ. هـ. مستفادا من حاشية ط- الشعب.
(٨) في أ: "عصابتي".
(٩) زيادة من ت، ف.
(١٠) في أ: "حسده".
(١١) في أ: "يأتنف".
(١٢) في أ: "عصابته".
(١٣) في ف، أ: "ليجوز".
(١٤) في أ: "من عمل".


الصفحة التالية
Icon