أَيْ: لَيْسُوا أَقَلَّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ حَقِيقَةً، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا. فَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ لَا شَكَّ وَلَا تَرَدُّدَ (١)، فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ هَاهُنَا، وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾.
وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمُقْتَرِبَ الدَّانِيَ الَّذِي صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ قَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، كَمَا سَنُورِدُ أَحَادِيثَهُمْ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ" (٢). فَجَعَلَ هَذِهِ إِحْدَاهُمَا. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: "ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى" وَلِهَذَا تَكَلَّمَ (٣) كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَتْنِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ آخَرَ وَقِصَّةٍ أُخْرَى، لَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ لَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾، فَهَذِهِ هِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْأُولَى كَانَتْ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ" (٤).
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ أولَ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَصَرَخَ بِهِ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا (٥) -ثَلَاثًا-ثُمَّ رَفَعَ بَصَرَهُ فَإِذَا هُوَ ثَانٍ إِحْدَى رِجْلَيْهِ مَعَ (٦) الْأُخْرَى عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِبْرِيلُ، جبريلُ -يُسكّنه-فَهَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ فِي النَّاسِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ نَظَرَ فَرَآهُ، فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَنَظَرَ فَرَآهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٧) ] ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ يَعْنِي جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ، ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ : وَيَقُولُونَ: الْقَابُ نِصْفُ الْأُصْبُعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذِرَاعَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ (٨). وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ شَاهِدٌ لِهَذَا.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ طَلْق بْنِ غَنَّامٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قوله:
(٢) صحيح مسلم برقم (١٧٦).
(٣) في م: "ولهذا قد تكلم".
(٤) تفسير الطبري (٢٧/٢٧).
(٥) في م: "أحدا".
(٦) في م، أ: "على".
(٧) زيادة من م.
(٨) تفسير الطبري (٢٧/٢٧).