بِنُفُوذِ قَدَرِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ﴾ أَيْ: إِنَّمَا نَأْمُرُ بِالشَّيْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا نَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ بِثَانِيَةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي نَأْمُرُ بِهِ حَاصِلًا مَوْجُودًا كَلَمْحِ الْبَصَرِ (١)، لَا يَتَأَخَّرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إذَا مَا أرَادَ اللَّهُ أمْرًا فَإِنَّما... يقُولُ لهُ: كُنْ، قَوَلةً (٢) فَيَكُونُ...
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ يَعْنِي: أَمْثَالَكُمْ وَسَلَفَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ أَيْ: فَهَلْ مِنْ مُتَّعِظٍ بِمَا أَخْزَى اللَّهُ أُولَئِكَ، وَقَدَّرَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ [سَبَأٍ: ٥٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ أَيْ: مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾ أَيْ: مِنْ أَعْمَالِهِمْ ﴿مُسْتَطَرٌ﴾ أَيْ: مَجْمُوعٌ عَلَيْهِمْ، وَمُسَطَّرٌ فِي صَحَائِفِهِمْ، لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ بَانَكَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ -وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا-عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ ومُحَقِّرات الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَانَكَ الْمَدَنِيِّ (٣). وَثَّقَهُ (٤) أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (٥)، ثُمَّ قَالَ سَعِيدٌ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَامِرَ بْنَ هِشَامٍ فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ يَا سَعِيدُ بْنَ مُسْلِمٍ! لَقَدْ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ عَمِلَ ذَنْبًا فَاسْتَصْغَرَهُ، فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْمَانُ:
لَا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا... إِنَّ الصَّغير غَدًا يَعُودُ (٦) كَبِيرَا...
إِنَّ الصَّغِيرَ وَلَوْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ... عِنْدَ الْإِلَهِ مُسَطَّرٌ تَسْطِيرَا...
فَازْجُرْ هَوَاكَ عَنِ الْبَطَالَةِ لَا تَكُنْ... صَعْبَ الْقِيَادِ وَشَمِّرَنْ (٧) تَشْمِيرَا...
إِنَّ المُحِبَّ إِذَا أَحَبَّ إلههُ... طَارَ الْفُؤَادُ وأُلْهِم التَّفْكِيرَا...
فَاسْأَلْ هِدَايَتَكَ الْإِلَهَ بِنِيَّة... فَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرَا (٨)
(٢) في أ: "في الوجود".
(٣) المسند (٦/١٥١) وسنن ابن ماجه برقم (٤٢٤٣).
(٤) في أ: "الذي وثقه".
(٥) تاريخ دمشق (٧/٣٥٣ "المخطوط") من طريق أبي عامر العقدي والقعنبي، كلاهما عن سعيد بن مسلم به.
(٦) في أ: "يكون".
(٧) في م: "وشمر".
(٨) تاريخ دمشق (٧/٣٥٣ "القسم المخطوط").