فَلَجَّج فِي الْبَحْرِ، فَغَرِقَ. وَاسْتَمَرَّ مُلْكُ الْحَبَشَةِ فِي أَيْدِي النَّصَارَى سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سيف ابن ذِي يَزِنَ الْحِمْيَرِيُّ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى، لَمَّا اسْتَجَاشَ بِكِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ فِي السُّجُونِ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَفَتَحَ بِهِمُ الْيَمَنَ، وَرَجَعَ الْمُلْكُ إِلَى حِمْيَرَ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ-إِنْ شَاءَ اللَّهُ-فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ حُدِّث: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حَفَر خَربَة مَنْ خَرِب نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ تَحْتَ دَفْن فِيهَا قَاعِدًا، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ، مُمْسِكًا عَلَيْهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا أَخَذْتَ يَدَهُ عَنْهَا ثَعبتْ دَمًا، وَإِذَا أَرْسَلْتَ يَدَهُ رُدّت عَلَيْهَا، فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ: رَبِّيَ اللَّهُ. فكُتِب فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِمْ: أَنْ أَقِرُّوهُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ الدّفَن الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. فَفَعَلُوا (١).
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا افْتَتَحَ أَصْبَهَانَ وَجَدَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَقَطَ، فَبَنَاهُ فَسَقَطَ، ثُمَّ بَنَاهُ فَسَقَطَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَهُ رَجُلًا صَالِحًا. فَحَفَرَ الْأَسَاسَ فَوَجَدَ فِيهِ رَجُلًا قَائِمًا مَعَهُ سَيْفٌ، فِيهِ مَكْتُوبٌ: أَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ، نَقَمْتُ عَلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. فَاسْتَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى، وَبَنَى الْحَائِطَ، فَثَبَتَ.
قُلْتُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُضاض بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمَيُّ، أَحَدُ مُلُوكِ جُرْهُمِ الَّذِينَ وَلُوا أَمْرَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ وَلَدِ نَبْت (٢) بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَلدُ الْحَارِثِ هَذَا هُوَ: عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ هُوَ آخِرُ مُلُوكِ جُرْهُمَ بِمَكَّةَ، لَمَّا أَخْرَجَتْهُمْ خُزَاعَةُ وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي شِعْرِهِ الَّذِي قَالَ ابْنُ هِشَامٍ (٣) إِنَّهُ أَوَّلُ شِعْرٍ قَالَهُ الْعَرَبُ:
كَأن لَم يَكُنْ بَين الحَجُون إِلَى الصَّفَا... أَنِيسٌ، وَلَمْ يَسمُر بمكَّةَ سَامِرُ...
بَلَى، نَحنُ كُنَّا أهلَهَا فأبادَنَا... صُروفُ اللَّيالي والجُدودُ العَوَاثِرُ...
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ قَدِيمًا بَعْدَ زَمَانِ إِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِقُرْبٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقْتَضِي أَنَّ قِصَّتَهُمْ كَانَتْ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زَمَانَ تُبَّعٍ، وَفِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، فَاتَّخَذُوا أَتُّونًا، وَأُلْقِيَ فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ. وَفِي الْعِرَاقِ فِي أَرْضِ بَابِلَ بُخْتُنَصَّرُ، الَّذِي وَضَعَ الصَّنَمَ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وصاحباه:
(٢) في م: "ثابت".
(٣) السيرة النبوية لابن هشام (١/١١٥).