وقد أوضح ﷺ هذا المثل المشار إليه في الآيتين في حديث أبي موسى المتفق عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا. فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
قوله تعالى: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ ضرب الله تعالى في هذه الآية المثل لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرآن، بظلمات المطر المضروب مثلا للقرآن، وبين بعض المواضع التي هي كالظلمة عليهم لأنها تزيدهم عمى في آيات أخر لقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [٢/١٤٣]؛ لأن نسخ القبلة يظن بسببه ضعاف اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس على يقين من أمره حيث يستقبل يوما جهة، ويوما آخر جهة أخرى، كما قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [٢/١٤٢].
وصرح تعالى بأن نسخ القبلة كبير على غير من هداه الله وقوى يقينه، بقوله :﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ وكقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ [١٧/٦٠]، لأن ما رآه ليلة الإسراء والمعراج من الغرائب والعجائب كان سببا لاعتقاد الكفار أنه ﷺ كاذب؛ لزعمهم أن هذا الذي أخبر به لا يمكن وقوعه. فهو سبب لزيادة الضالين ضلالا. وكذلك الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم. فهي سبب أيضا لزيادة ضلال الضالين منهم؛ لأن النبي ﷺ لما قرأ: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ [٣٧/٦٤]، قالوا: ظهر كذبه؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار؟
وكقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [٧٤/٣١]؛ لأنه ﷺ لما قرأ قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [٧٤/٣٠].


الصفحة التالية
Icon