مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [٨٦/٥-٧]؛ لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب، ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها؛ ومنه قول امرىء القيس:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل، أو ابن أبي ربيعة:
والزعفران على ترائبها شرقا به اللبات والنحر
فقوله هنا: ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [٨٦/٧]، يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة، وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [٨٦/٥]، تنبيه له على حقارة ما خلق منه، ليعرف قدره، ويترك التكبر والعتو، ويدل لذلك قوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ...﴾ الآية [٧٧/٢٠].
وبين جل وعلا حقارته بقوله: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ [٧٠/٣٨]، والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله: ﴿مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ [٧٠/٣٩]، فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان، وفي ذلك أعظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم.
وقوله جل وعلا: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [١٦/٤]، أظهر القولين فيه: أنه ذم للإنسان المذكور، والمعنى: خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطيع؛ ففاجأ بالخصومة والتكذيب، كما تدل عليه ﴿إِذَا﴾ الفجائية، ويوضح هذا المعنى قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [٥١/٥٦]، مع قوله جل وعلا: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [٣٦/٧٧-٧٩]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً﴾ [٢٥/٥٤، ٥٥]، وقوله: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ [١٩/٦٦، ٦٧]، إلى غير ذلك من الآيات، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح لهذا المبحث في "سورة الطارق".


الصفحة التالية
Icon