وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها؛ لأنه تعالى صرح بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها أمراً جازماً في قوله: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾، واجتناب الشيء: هو التباعد عنه، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه. وعلق رجاء الفلاج على اجتنابها في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويفهم منه: أنه من لم يجتنبها لم يفلح، وهو كذلك.
ثم بين بعض مفاسدها بقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾ [٥/٩١]، ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [٥/٩١]، فهو أبلغ في الزجز من صيغة الأمر التي هي "انتهوا"، وقد تقرر في فن المعاني: أن من معاني صيغة الاستفهام التي ترد لها الأمر؛ كقوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، وقوله: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ...﴾ الآية [٣/٢٠]، أي: أسلموا. والجار والمجرور في قوله: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ...﴾ الآية [١٦/٦٧]، يتعلق بـ ﴿تَتَّخِذُونَ﴾، وكرر لفظ ﴿مِنْ﴾ للتأكيد، وأفرد الضمير في قوله ﴿مِنْهُ﴾ مراعاة للمذكور؛ أي: تتخذون منه، أي: مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب، ونظيره قول رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقوله "كأنه" أي: ما ذكر من خطوط السواد والبلق. وقيل: الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه؛ أي: ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، أي: عصير الثمرات المذكورة، وقيل: قوله: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ﴾، معطوف على قوله: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [١٦/٦٦]، أي: نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل. وقيل: يتعلق بـ ﴿نُسْقِيكُمْ﴾ [١٦/٦٦]، محذوفة دلت عليها الأولى؛ فيكون من عطف الجمل. وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على ﴿الْأَنْعَامِ﴾ [١٦/٦٦]، وهو أضعفها عندي.
وقال الطبري: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكراً؛ فحذف "ما".
قال أبو حيان في البحر: وهو لا يجوز على مذهب البصريين. وقيل: يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف، أي: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه.


الصفحة التالية
Icon