فإن قيل: ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم؛ كقوله تعالى عنهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [٦/٢٣]، وقوله: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [١٦/٢٨]، وقوله: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً﴾ [٤٠/٧٤]، ونحو ذلك من الآيات.
فالجواب: من أوجه:
منها: أنهم يعتذرون حتى إذا قيل لهم: ﴿قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ [٢٣/١٠٨]، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق؛ كما قال تعالى: ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ﴾ [٢٧/٨٥].
ومنها: أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة. أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم، يصدق عليه في لغة العرب: أنه ليس بشيء، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ [٢/١٧١]، مع قوله عنهم: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [٦٣/٤]، أي: لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. وقال عنهم أيضاً: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [٣٣/١٩]، فهذا الذي ذكره جل وعلا من فصاحتهم وحدة ألسنتهم، مع تصريحه بأنهم بكم ـ يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء، كما هو واضح. وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي:

وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وقد بينا هذا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، في مواضع منه. والترتيب بـ ﴿ثُمَّ﴾ [١٦/٨٤]، في قوله في هذه الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [١٦/٨٤]، على قوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ [١٦/٨٤]، لأجل الدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المشعر بالإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم بكفرهم.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾، اعلم أولاً، أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى؛ أي: الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره. وتستعمل أيضاً في اللغة بمعنى أعتب: إذا أعطى العتبى؛ أي: رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن في قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [١٦/٨٤]، وجهين من التفسير متقاربي المعنى.


الصفحة التالية
Icon