الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ...} الآية [٢٦/٧٦-٧٩]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [٤٣/٢٦] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا كثيراً من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره ـ أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات، ويظهرها من العدم إلى الوجوه بما أغنى عن إعادته هنا.
وقوله: في هذه الآية الكريمة: ﴿بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ [١٨/٣٨] معنى خلقه إياه من تراب: أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب. كما قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ...﴾ الآية[٣/٥٩]. ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ...﴾ الآية [٢٢/٥].
وقوله: ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي بعد أن خلق آدم من التراب، وخلق حواء من ضلعه، وجعلها زوجاً له ـ كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل. فبعد طور التراب طور النطفة، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ [٧١/١٤]، وقوله تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ﴾ [٣٩/٦] وقد أوضحها تعالى إيضاحاً تاماً في قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [٢٣/١٢-١٣].
ومما يبين خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، قوله: تعالى في السجدة: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ [٣٢/٦-٩]. وقوله: في هذه الآية: ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ [١٨/٣٨] كقوله: ﴿خَلَقَ الإِنْسانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ [١٦/٤]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ﴾ [٣٦/٧٧]، أي بعد أن كان نطفة سار إنساناً خصيماً شديد الخصومة في توحيد ربه.