الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في الحجر وسورة الحجر: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [١٥/٢٨-٢٩] وقال في ص: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [٣٨/٧١/٧٢] ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدَّدَ لهم الأمر بالسجود له تنجيزاً.
وقوله: في هذه الآية الكريمة: ﴿فَسَجَدُواْ﴾ محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [١٥/٣٠، و٣٨/٧٣] ونحوها من الآيات.
وقوله: في هذه الآية الكريمة، ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [١٨/٥٠] ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن. وقد تقرر في الأصول في مسلك النص وفي مسلك الإيماء والتنبيه: أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كقولهم:: سرق فقطعت يده، أي لأجل سرقته. وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [٥/٣٨] أي لعلة سرقتهما. وكذلك قوله: هنا ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ﴾ [١٨/٥٠] أي لعلة كينونته من الجن، لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو. ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وأنه كان يتعبد معهم، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها. والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطاناً، أو ليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم ـ مشهور عند أهل العلم. وحجة من قال: إن أصله ليس من الملائكة أمران: أحدهما ـ عصية الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس. كما قال تعالى عنهم: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [٦٦/٦]، وقال تعالى: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [٢١/٢٧]. والثاني: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا: وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال: إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ [١٥/٣٠-٣١] قالوا:
فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال


الصفحة التالية
Icon