وأما استدلالهم على تقليدهم بأن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله ﷺ موجود بين أظهرهم، وأن ذلك تقليد لهم فهو ظاهر السقوط أيضا، لأنهم ما كانوا يفتونهم في حالة وجود رسول الله ﷺ بين أظهرهم إلا بما علمهم من الكتاب والسنة كما لا يخفي.
ومن أفتى منهم وغلط في فتواه أنكر عليه النبي ﷺ فتواه التي ليست مطابقة للحق، وردها عليه كإنكاره على أبي السنابل بن بعكك قوله لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها ووضعت حملها بعد ذلك بأيام: إنها لا تنقضي عدتها إلا بعد أربعة أشهر وعشر ليال.
وقد استدل أبو السنابل على ما أفتى به بعموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ [البقرة: ٢٣٤].
وقد رد عليه النبي ﷺ فتواه مبينا أن عموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً﴾ [البقرة: ٢٣٤]، مخصص بقوله تعالى: ﴿وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤].
وكإنكاره ﷺ على الذين أفتوا صاحب الشجة بأنهم لم يجدوا له رخصة وهو يقدر على الماء.
وقد قدمنا قصته، وأن النبي ﷺ قال فيهم: "قتلوه قتلهم الله" الحديث.
والظاهر أنهم استندوا في فتواهم لما فهموه من قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ [النساء: ٤٣] وغفلوا عن قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ [النساء: ٤٣]، وأمثال هذا كثيرة.
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢] قائلين إن الآية أوجبت قبول إنذارهم، وأن ذلك تقليد لهم، فهو ظاهر السقوط أيضا؛ لأن الإنذار في قوله: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٢] لا يكون برأي.
وإنما يكون بالوحي خاصة، وقد حصر تعالى الإنذار في الوحي بأداة الحصر التي هي ﴿إِنَّمَا﴾ في قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء: ٤٥].
وبه تعلم أن الإنذار لا يقوم إلا بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة، لم يكن قد أنذر، كما


الصفحة التالية
Icon