وأن الناس يقدرون على مثلها وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلا من بعده، إذ كان أول من تكلم بها في دمشق عاصمة الأمويين، وكان مَروان
(ويلقب بالحمار) يتبع رأيه، حتى نسب إليه، فقيل مروان الجعدي.
ولم تظهر بعده فتنة القول بخلق القرآن إلا زمن أحمد بن أبي دُؤاد وزير المعتصم (سنة ٢٢٠ هـ) وكان أول من بالغ في القول بذلك عيسى بن صَبيح الملقب بالمُزدار الذي إليه تنسب المزدارية كما سيأتي.
ثم لما نجَمَت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعة من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شؤون أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على
كونها نظراً صرفاً، وبين الدين على كونه يقيناً محضاً وتغلغوا في ذلك حتى خالف بعضهم بعضاً بمقدار ما يختلفون في الذكاء وبعد النظر، فتفرقوا عشر فرق، واختلفت بهذا آراؤهم في وجه
إعجاز القرآن اختلافاً يقوم بعضه على بعض، فيبدأ فارغاً وينتهي كما بدأ وإن كثر في ذات نفسه.
فذهب شيطانُ المتكلمين أبو إسحاق إبراهيم النَّظام إلى أن الإعجاز كان بالصرفة، وهي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الضرف خارقاً للمادة.
قلنا وكأنه من هذا القبيل هو المعجزة لا القرآن.
وهذا الذي يروون عنه أحد شطرين من رأيه، أما الشطر الآخر فهو الإعجاز إنما كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية.
وقال المرتضى من الشيعة: بل معنى الصرفة أن الله سلبهم العلوم.. التي يُحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن. فكأنه يقول إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعاني؛ إذ لم يكونوا أهل علم ولا كان العلم
في زمنهم، وهذا رأي بيِّن الخلط كما ترى.
غير أن النطام هو الذي بالغ في القول بالصرفة حتى عرفت به، وكان هذا الرجل من شياطين أهل الكلام، على بلاغة ولَسَن وحسن تصرف، بيدَ أنه شب في ناشئة الفتنة الكلامية، فلم ينتفع
بيقين. وقال فيه الجاحظ وهو تلميذه وصاحبه وأخبر الناس به:
" إنما كان عيبه الذي لا يفارقه، سوء ظنه وجَودَة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يُوثق بمثله، فلو كان بَدَلَ تصحيحه
القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمرُه على الخلاف. ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بَدءَ أمره ظناً، فإذا أتقن ذلك وأيقن، جَزَم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية
المستبصِر في صحة معناه؛ ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكان كلامه إذا خرج مخرج الشهادة القاطعة لم يشك السامع أنه إنما حكى ذلك عن سماع قد امتحنه، أو عن معاينة قد بهرته " اهـ.
قلنا: وهذا بعض ما ذهب بفضل بلاغته، وغطى على أثره، ونقض أمرَهُ عُروة عروة، وجعله