وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء، ولم يظهر في أمة ظهورَه في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام، وفي جاهليتهم الثانية من بعده، لا حين استفحل أمر الفِرق الإسلامية
واستحرَّ الجدالُ بينهم، فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خَواص واقتحموا تلك الخصومات
حتى يَبس ما بين بعضهم إلى بعض، وإن كان ليس بينهم إلا الدينُ والعقل.
فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغَه لفظاً وأسلوباً ومعنى، ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها،
وكانت رأسَ أمره وقِوَامَ تدبيره، إذ هي بصبغتها العقلية ومعناها النفسي؛ وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فبما هي قوية به، بحيث يَشعر أهلها بالعجز
والضعف والاضطراب، شعوراً لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين.
ومن طباع النفس التي خُبِلت عليها، أنها متى خذلت وكان خذلانُها من قِبَل ما تعده أكبر فخرها وأجملَ صتعِها وأعظمَ همها وأصابها الوَهن في ذلك، وضربها الخذلانُ باليأس، فقلما تنفعها نافعة بعد ذلك أو تجزثئها قوة أخرى؛ وقلما تصنع شيئاً دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه ومجاوَزةِ ما لا تستطيع إلى ما تستطيع.
فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآنُ من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم،
ومن جهة الكلام الذي هو سيدُ عملهم، بل تصدعوا عنه وهم أهلُ البسالة والبأس وهم مَساعير الحروب ومغاويرها، وهم كالحصى عدداً وكثرة، وليس لرسول الله جمتِ إلا نفسهُ، وإلا نفرٌ قليل معه، لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مفادَتهم ونصرَهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم
وكاثرَهم وغلبهم على أنفسهم؛ فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة
والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي - ﷺ - وكأنه في نفسه
قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها، وهذا هو حق الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في السرايا والجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح، حتى نصروا بالرعب من بعيد وقريب، وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم، وتُعد المراصد لعدوهم من نفسه، وتسلبه ما
لا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا، ويريد أعداؤهم أن يحيوا فيموتوا.. وإلا فاين تلك الشراذم العربية القليلة، من جيوش الروم والفرس، وهي فيها كالشامة