في جلد البعير، ولو قعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها!
على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي - ﷺ - وجماعته على
كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه، وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبَّة هذا الأمر، وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة، فلم يُجمعوا كيدهم، ولم يصدموه، بل
استأنوا به ولبسوه على أمر، وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة، وتركوا أسباباً كانت منهم قريبة،
وليس في ذلك سبب وراء القرآن؛ فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي،
وتخذلهم في أنفسهم، فلا يحسون منها إلا تراجُعَ الطبع وفتور العزيمة. ويكسر ذلك عليهم أمرهم. فتقع الحرب في أنفسهم بديئاً بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها
بنفوس مخذولة، وعزائم واهية، وأمور منتشرة، وخواطر متقسمة، وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حربْ سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال: من أقدم
عليها مرة كان آية لنفسه، وكان عبرة لغيره، حتى ما يعتزمُ لهولها كرةَ أخرى، فمن سكَن بعدها فقد سَكَن!
ونزل القرآن على الوجه الذي بيناه، فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي - ﷺ - وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أمَّلوا أن يَطلِعوا عليه في آياته البينات، كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد
الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحِها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علوا ونزولاً،
على حسب ما لا بد منه في اختلاف المعاني، وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها، والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها، مما ينقسم إليه الخطابُ ويتصرف القول فيه.
ومروا ينتظرون وهم مُعدون له التكذيب، متربصون به حالة من تلك الأحوال، فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام، وديباجة كالسماء في استوائها: لا وهن ولا صدع، وإذا عصمة قوية، وجمرَة
متوقدة، وأمرٌ فوق الأمر وكلام يحاورن فيه بدءاً وعاقبة.
وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقَصيد والخطب، ثقةَ منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم، يستَعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة؛ وهم مجبولون عليه فطرة.
ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم،
فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقاً كأنها قضية من


الصفحة التالية
Icon