فطرتهم اللغوية، ولا يتوهم ذلك وإن انتشرت لهم في الخلافِ كل قالة.
ذلك فيما ترى هو السبب الأول الذي من أجله اختلفت بعض ألفاظ القرآن في قراءتها
وأدائها اختلافاً صح جميعه عن رسول الله - ﷺ - وصحت قراءته؛ وهو كان أعلمَ العرب بوجوه
لغتها، كما سيأتي في موضعه؛ إذ لا وجه عندنا للاختلاف الصحيح إلا هذا، فإن القرآن لو نزل
على لفظ واحد ما كان بضائره شيئاً وهو ما هو إحكاماً وإبداعاً، فهذه واحدة.
وحكمة أخرى، وهي تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلاً عن أن يكون مما ألفوه.
وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، وهي أن تكون الألفاظُ في أختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في
الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم ثم هو مما لا يستطيعه لغوي أو بياني
في تصوير خيالٍ فضلاً عن تقرير شريعة.
ومن أعجب ما رأيناه في إعجاز القرآن وإحكام نظمه، أنك تحسب ألفاظَه هي التي تنقاد لمعانيه. ثم تتعرف ذلك وتتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادة لألفاظه، ثم تحسب العكس وتتعرفه متثَبتاً فتصير منه إلى عكس ما حسبت وما إن تزال متردداً على منازعة الجهتين كلتيهما،
حتى ترده إلى الله الذي خلق في العرب فطرة اللغة، ثم أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة.
لأن ذلك التوالي بين الألفاظ ومعانيها. وبين المعاني وألفاظها، مما لا يعرف مثله إلا في الصفات
الروحية العالية. إذ تتجاذب روحان قد ألفت بينهما حكمة الله فركبتهما تركيباً مَزجياً بحيث لا يجري حكم في هذا التجاذب على إحداهما حتى يَشملها جميعاً.
ووجوه الاختلاف الطبيعي - كاختلاف القراءات في العرب - مما لا تفهم له تلك الطباع المختلفة به وجهاً، لأن كل عربي قد ثَبت على لحنه في النطق أو القراءة فيحسب ذلك الاختلاف مما لا يحتمله الشيء الثابت.
ولهذا جاءت بعض روايات عن الصحابة رضي الله عنهم
تصف نبضاً من الشك ربما كانت تضرب به قلوبهم، حين يسمعون الاختلاف بين قراءة وقراءة
حتى يصرف الله عنهم ذلك ويربط على قلوبهم كما روي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت
هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقانَ في حياة رسول الله - ﷺ -، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على
حروف كثيرة لم يقرئنِيها رسول الله - ﷺ - كذلك، فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلَّم،
فلما سلَّم لبَّبته بردائه فقلت. مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؛ قال: أقرأنيها