وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق
على الكبر خلقاً جديداً، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعاً، والعلوم قاطبة،
تنشئ جيلاً من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله - ﷺ -: في علو النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط
الجناح، ورجاحةِ اليقين، وتمكُن الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخل
وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون الإنسان من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب.
الفضيلة، من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحىَ، وهلم إلى أن تستوفي الباب كله.
وهذا على كثرة عديدهم، وترادُفِ تلك الآداب فيهم، وتظاهرها على جميعهم، واستقامت
لها بأنفسهم؛ وإنما يكون مثلُ الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل، وفي الجيل بعد الجيل، وعلى ذلك ليكون في الأرض نادرة الفلك، بل يجعل هذه الأرضَ مثال السماء لأنه في نفسه مثال الملك.
وماذا تريد من علوم الأخلاق وعِبَر الاجتماع وفلسفةِ التربية وآداب السلوك وما إليها.
يُبتغى ذريعة في كل وجه من إصلاح الإنسانية. إذا كانت كل هذه إنما تَلتمس الناقصَ أو المعيب
أو الفاسدَ أو الضال، فتتمه وتقيمه وتصلحه وتتنصحُ إليه على طريق من الجدل والمدافعة، والبرهان، إن هي أغنت في قليل لم تُغن في كثير، وإن أقنعت العقل لم تبلغ من القلب مبلغاً،.
تؤخذ إلا على أنها ثِقاث ودُرْبة وتمكين، وما كل الناس يحسن أن يقوم على نفسه بنفسه هذا
القيام، وهي بعد وإن كانت علما غير أنها بسبيل ما عداها من العلوم التي تنقص منها التجربة
ويَشوبها الاجتماع ويُفسد عليها الظن والتأول. فكل كتاب من كتبها خيالُ رجل كامل على
الحقيقة؛ ولكنك إن ذهبت تلتمس ذلك الرجلَ في عالم الحس العلمي الذي يتأدب بتلك الكتب
ويكون في الواقع هو صورتها وتكون هي معناه - لم تقع على اسمه ولو سألت ملائكة (اليمين جميعاً؛ إلا أن تُصيب ذلك في الفرط والندرة.
وإنما كان ما علمتَ، لقصور هذه الآداب عن استبطان حقائق الفطرة الإنسانية، والكشف
عن دخائلها، واستنارةِ دفائنها، وتمثل مذاهبها النفسية على الوجوه التي تذهب إليها هي لا تلك
الوجوه التي يمضي فيها النظر والتأمل والحدسُ والقياس والتنظير ونحوها من وسائل العلماء إلى
الاستنباط والاستنتاج والى القطع والتقرير، حتى خرجت تلك الآداب من أن تكون آداباً إلى حيث
صارت قضايا متداخلاً بعضها في بعض، وأقيسة يُفضي بعضُها إلى بعض، فصارت كالشيء
المختلف الذي لا ينفك يَخذلُ بعضُه بعضاً؛ لحملها على العقل دون الخُلُق، واعتمادها على جنس
الفائدة دون الطريقة التي تنتهي إلى الفائدة، وبذا ضعفت آثارها في النشء من دون الطفولة، فضاقت
عن ذوي العُنفُوان من الأحداث ومن أغفالِ الرجال، إذ لم تمازج أنفسهم! ولا داخلت طبائعهم
المتطلعة التي إنما يكون الشر بها شراً، فلم تثبت ثبات العادة، ولا أغنت غناء الدين، وبقيت