مبدأ العبودية لغيرها؛ وهذا الأصل أرقى ما انتهت إليه علوم الاجتماع لهذا العهد.
وكذلك كل ما في آداب القرآن الكريم من الأمر والنهي، فإنما يراد به ضبط الصلة بين عالم العقل وعالم المادة على وجه بين؛ ولولا ذلك ما كانت هذه الآداب زمنية تحيي روح الزمن كله،
بل لكانت من غير هذا العالم، فلا يستقيم لها بشيء ولا تستقيم هي لشيء ثم لا تكون في الناس إلا عنتاً وإرهاقاً ولا يتهيأ معها صرف ولا عدل، ولا يكون منها في الزمن إلا اسمها، وإلا الخبر أنها كانت يوماً فتلحق في التاريخ بباب الفضائل الذي لا يلجه إلا القليل، مع أن وراءه كل
أسماء الحكماء والفلاسفة.
والإنسان إنما يصرف ما يشاء من النواميس الثابتة لعالَم المادة فيما يرجع بالنفع والضرر، فإذا أطلقت يده في ذلك فكأنه جزء ناقص من نظام الكون؛ أو جزء يتقصه شيء من هذا النظام؛ بيد أن
الآداب إذا أحكمت صلته بذلك العالم المادي على وجه بيّن حلاله وحرامه، فلا ينحاز إلا في حد من الحدود المرسومة، ولا يبغي شيئاً لم تتعين تبعته، ولا يستدخل في أمر إلا وهو في ربقةٍ من
نظامه الاجتماعي فإنه يكون قد استكمل حينئذ ما كان ينقصه، أو ما كان يجعله ناقصاً إن خلا منه، وما دامت الحياة مادة، فللمادة حكمها في الحياة.
وما تدبر هذا القرآن أحدَ قط إلا وجده يطلق لكل إنسان - على القوة والضعف والعزة والذلة
- إرادة اجتماعية أساسها الفضيلة الأدبية: حتى لا تكون بطبيعتها إلا جزءاً من الشريعة التي هي في الحقيقة إرادة المجموع، ولقد كانت تلك الإرادة الاجتماعية هي الحلم السماوي الذي أطبق عليه
الموت أعين الفلاسفة وحكماء الأرض جميعاً، ولم يتحقق في غير ذلك الجيل الذي كان المثال الصحيح لآداب القرآن؛ إذ تمكنت منه الفضيلة الأدبية بمقدار ما يأتي لها أن تتمكن من نفس الإنسان، وبلغت فيه ما يتفق لها أن تبلغ من الفطرة؛ فكانت أعمالها مظاهر لتلك القوة التي
سميناها " الإرادة الاجتماعية " ولو أن العلوم كلها والفلسفة وأهلها كانت لأولئك العرب مكان القرآن لما أغنت شيئاً من غنائه، ولا ردت عليهم بعض مرده؛ فإن الفضيلة العقلية التي أساسها العلم، لا تعطي غير الإرادة النظرية التي ربما اهتدى بها المرء وربما ظل بها على علم، ولكن الفضيلة الأدبية
تدفع إلى الإرادة العملية دفعاً؛ لأن هذه الإرادة هي مظهرها ولا سبيل لظهورها غير العمل، ومتى صحت إرادةُ الفرد واستقام لها وجه في الاجتماع، فقد صار بنفسه قطعة من عمل الأمة، ولا بد أن
تكون الأمة القائمة بأفراد من أمثاله قطعة من عمل التاريخ الاجتماعي؛ وهذا بعينه هو الذي أنشأه القرآن في العرب من أنفسهم، وأنشأه من العرب في التاريخ، وهو وليهم بما كانوا يعملون.
ومثل تلك الإرادة التي وصفنا لا تكون ولا وجه لكونها إلا أن يجعل هذا القرآن للمرء مبدأ قبل أن يجعل له شريعة، ثم لا يقيم الشريعة إلا على هذا المبدأ، فيكون المرء محكوماً بيقينهِ