أوروبا. فما من موضع في هذا (الأساس) القائم إلا وأنت واجد من دونه قطعةَ من الآداب الإسلامية أو العقول الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، فالقرآن من هذا الوجه إنما هو البابُ الذي
خرج منه العقلُ الإنساني المسترحلُ، بعد أن قطعَ الدهر في طفولةٍ وشباب.
وكل دين سماوي فإنما هو طور من أطوار النمو في هذا العقل الإنساني يستقبل به الزمان درجات جديدة في نشأته الأرضية؛ فما التاريخ كله إلا مِقياس عقلي درجاته وأرقامه هذه العصور
المختلفة التي يستعين العقل منها مقدار زيادته من مقدار نقصانه.
أما من وجه آخر فإن القرآن إنما هو الدرجة الأبدية التي أجاز عليها العالم في انتقاله من جهة
إلى جهة. وإنا لمستيقنون أن هذه الدرجة هي نفسها التي سيجيز عليها العالم كرة أخرى (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١).
وأما إن هذا القرآن معجزة التاريخ العربي خاصة وأصل النهضة الإسلامية، فذلك بين من كل وجوهه؛ غير أننا سنقول في الجهة التي تتصل بنشأة العلوم، إذ هي سبيل ما نحن فيه من هذا
الفصل، وقد أومأنا إلى بدء تاريخ التدوين العلمي وبعض أسبابه في باب الرواية من الجزء الأول
من تاريخ آداب العرب، فنفتصر هنا على موجز من أسباب النشأة العلمية.
اختلف المسلمون في قراءة القرآن لعهد عثمان رضي الله عنه كما تقدم في موضعه، وبدأت، ألسنة الحضريين ومن في حكمهم من ضعاف الفطرة العربية؛ تجنح إلى اللحن وتزيغ عن الوجوه
في الإعراب؛ وجعل ذلك يفشو بين المسلمين بعد أن اضطرب كلام العرب فداخله الشيء الكثير من المولد والمصنوع؛ وذهب أهل الفتن يتأولون عن معاني القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه،
وخيف على سنة رسول الله - ﷺ - وهي الأصل الثاني بعد القرآن؛ ثم فشا الجهل بأمور الدين،
وضعف عامة الناس عن حمل العلم وطلبه، واقتصروا من ذلك على أن يفزعوا إلى العلماء
بالمسألة فيما يحدث لهم وما يرجون أن يتفقوا فيه، ثم تباينت آراء العلماء واختلفت أفهامهم فيما يستنبطون من الأحكام وما يتأولون لها من الكتاب والسنة، واختلط أمر الناس، وأقبلت عليهم
الفتن كقِطع الليل، وامتدت إليهم كأعناق السيل، فكان ذلك كله ما بعث العلماء أن يفترقوا على جهات القرآن؛ حياطة لهذا الدين. وقياماً بفروض الكفاية، يستقبل بعضهم بعضاً بالرفد
والمعاونة، ويأخذون على أطراف الأمر كله، وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم