يوم كان العلم فروعاً قليلة، إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيشُ وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضاً.
قال أحد العلماء: " فاعتنى قوم بضبط لغاتهِ وتحريز كلماتهِ، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعددِ كلماته وآياته وسوَره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سَجداته، والتعليم عند كل
عشر آيات؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرضٍ لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء!
" واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال.
واللازم والمتعدى، ورسوم خط الكلمات وجميع ما لعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة.
" واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظاً يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فأنجرَوا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا
في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره..
" واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
" وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز.
" وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
" وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام؛
فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعَهُ، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضاً.


الصفحة التالية
Icon