وجامع منزل المحكم ما افتتح به التنزيل في قوله تعالى :﴿اقرأ باسم ربك﴾ [العلق : ١] الآيات، وما قدم في الترتيب في قوله تعالى :﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ إلى ما ينتظم بذلك من ذكر عبادة القلب التي هي المعرفة ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات : ٥٦] فليكن أول ما تدعوهم إليهم عبادة الله فإذا عرفوا الله، ومن ذكر عبادة النفس التي هي الإجمال في الصبر وحسن الجزاء ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم﴾ [الكهف : ٢٨] ﴿ويدرؤون بالحسنة السيئة﴾ [الرعد : ٢٢] ﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ [المؤمنون : ٢] لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه إلى سائر أحوال العبد التي يتحقق بها في حال الوجهة إلى الرب، وما تقدم من حرفي الحلال والحرام لإصلاح الدنيا، وحرفي الأمر والنهي لإصلاح العقبى معاملة كتابه، والعمل بهذا الحرف اغتباط بالرق وعياذ من العتق، فلذلك هو أول الاختصاص ومبدأ الاصطفاء وإفراد موالاة الله وحده من غير شرك في نفس ولا غير، ولذلك بدئ بتنزيله النبي العبد، وهو ثمرة ما قبله وأساس ما بعده، وهو للعبد أحوال محققة لا يشركه فيها ذو رثاء ولا نفاق، ويشركه في الأربعة المتقدمة - يعني النهي والأمر والحلال والحرام، لأنها أعمال ظاهرة فيتحلى بها المنافق، وليس يمكنه مع نفاقه التحلي بالمعرفة، ولا بالخشوع ولا بالخضوع، ولا بالشوق للقاء ولا بالحزن في الإبطاء، ولا بالرضا بالقضاء، ولا بالحب الجاذب للبقاء في طريق الفناء، ولا بشيء مما شمله آيات المحكم المنزلة في القرآن وأحاديثه الواردة للبيان، وإنما يتصف بهذا الحرف عباد الرحمن ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ [الفرقان : ٦٣] الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ [الحجر : ٤٢، والإسراء : ٦٥].
٥٩