ولما كانوا يعهدون أن بعض البشر من الكهان يخبرون بشيء من المغيبات، وكان الكهان يخلطون الصدق بالكذب، وكان النبي ﷺ يخبرهم بمغيبات كثيرة فيكون كما قال دائماً لا خلف في شيء منها ولا زيادة ولا نقص، فصاروا يظنون أنه يعلم الغيب، ولكنهم يظنونه من آيات الكهان حتى أطلقوا عليه أنه كاهن، فكانوا يسالونه عن وقت العذاب الذي يتوعدهم به وعن غيره، لعلهم يظفرون عليه بشيء مما يقوله الكهان ولا يكون، فيعدونه عليه ؛ نفى ما ظنوه غيره على هذا المقام أن ينسب إلى غير مالكه الذي لا يجوز أن يكون لغيره، فقال نافياً له من أصله، لا للقول فقط كما في سابقه ولاحقه، اطفاً على ﴿لا أقول﴾ لا على ﴿عندي﴾ ﴿ولا أعلم الغيب﴾ أي فأخبركم بوقت الفصل بيني وبينكم من مطلق العذاب أو قيام الساعة، فإن هاتين الحالتين - ملك الخزائن وعلم الغيب - ليستا إلا لمرتبة الألوهية، وإنما لم أدّع الأول كما ألزمتموني به، ولا اتصفت بالثاني بما ظننتم.
٦٤٠
ولما كانوا يظنون أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، فكانوا يلزمونه بدعواه الرسالة دعوى الملائكة ليلزموه بذلك ادعاء ما هو ظاهر البطلان، قال :﴿ولا أقول﴾ أي بدعوى الرسالة ؛ ولما كان ﷺ أعلى الأنبياء صفاء وأنورهم قلباً وأشدهم في كل هدى إضاءة وأنقاهم من نقائص البشر، وكان هذا أمراً من الله له.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٨
قيد بقوله :﴿لكم﴾ إفهاماً لأنه لا يمتنع عليه أن يقول ذلك، بل لو قاله كان صادقاً، ومثله كثير في مجازاتهم ومجاري عاداتهم في محاوراتهم، وأما إسقاط " لكم " في قصة نوح من سورة هود عليهما السلام فتواضعاً منه لكونه من قوله، من غير تصريح بإسناد الأمر فيه إلى الله تعالى ﴿إني ملك﴾ فأقوى على الأفعال التي تقوى عليها الملائكة من التحرز عن المأكل والمشرب وغيرهما من أفعال الملائكة.


الصفحة التالية
Icon