فلما انتفى عنه ما ألزموه به وما ظنوه فيه من كونه إلهاً أو ملكاً، انحصر الأمر في أنه رسول واقف عندما حده له مرسله، فقال على وجه النتيجة :﴿إن﴾ أي ما ﴿أتبع﴾ أي بغاية جهدي ﴿إلا ما يوحى إلي﴾ أي ما رتبتي إلا امتثال ما يأمرني به ربي في هذا القرآن الذي هو - بعجزكم عن معارضته - أعظم شاهد لي، ولم يوح إلي فيه أن أقول شيئاً مما تقدم نفيه، وأوحى إلي لأنذركم به خصوصاً، وأنذر به كل من بلغه عموماً، وذلك غير منكر في العقل ولا مستبعد بل قد وقع الإرسال لكثير من البشر، وقد قام على ثبوته لي واضح الدلائل وثابت الحجج وقاطع البراهين، فإن كان فيه الإذن لي بإبراز خارق أبرزته، وإن كان يه الإعلام بمغيب أبديته، وإلا اقتصرت على الإبلاغ مع التحدي، وهو مخبر بأن الله - الذي ثبت بعجزكم عن معارضته أنه قوله - شاهد لي بصحة الرسالة وصدق المقالة.
ولما ثبت بهذا أنهم عمي الأبصار والبصائر، لا يهتدون إلى ما ينفعهم، ولا يقدرون على إفحام خصم ولا التفصي عن وهم ولا وصم، بل هم كالسالك بين المهالك، يتبين بادئ بدئه في دعواه الحكمة زوره وكذبه وفجوره لأتباع الهوى الذي هو أدوأ أدواء، وأنه ﷺ أبصر البصراء وأحكم الحكماء لأتباعه علام الغيوب، وكان موضع أن يقال : ما يوحى إليك في هذا المقام ؟ قال على وجه التبكيت لهم :﴿قل﴾ أي لكل من يسمع قولك بعد هذا البيان الفائت لقوى الإنسان ﴿هل يستوي﴾ أي يكون سواء من غير مرية ﴿الأعمى والبصير﴾ فإن قالوا : نعم، كابروا الحس، وإن قالوا : لا، قيل : فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير، ومن أعرض عنها فهو العمى، ومن سوى بين الخالق وبين شيء من خلقه فهو أعمى العمى ؛ ثم أمره بعد الإنكار للتسوية بينهما بأن ينكر عليهم فساد نظرهم وعمى فكرهم بقوله :﴿أفلا تتفكرون *﴾ أي فيردكم فكركم عن هذه الضلالات.
٦٤١
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٣٨


الصفحة التالية
Icon