ولما اهتز السامع من هذا التقديم لزيادة المعنى من غير زيادة اللفظ، تشوف إلى معرفة النوع الذي كان منه الشركاء فبينهم بقوله :﴿الجن﴾ أي الذين هم أجرأ الموجودات عليهم وأعداهم لهم، فأطاعوهم كما يطاع الإله فكان عبادة لهم وتشريكاً، وقد رأيت ما للبيان بعد الانتهاء مما يحسن للناظرين ﴿وخلقهم﴾ أي والحال أنهم قد علموا أن الله خلقهم أي قدرهم بعلم وتدبير، فلذلك كان خلقه لهم محكماً ﴿وخرقوا﴾ أي العابدون ﴿له بنين﴾ أي كعزير والمسيح ﴿وبنات﴾ أي من الملائكة، فجمعوا لذلك جهالات هي غاية في الضلالات : وصف الملائكة بالأنوثة والاجتراء على مقام الربوبية بالحاجة، تخصيصه بعد ذلك بما لا يرضونه لأنفسهم بوجه ؛ ومادة خرق تدور على النفوذ والاتساع والإطلاق والتقدير بغير علم ولا معرفة ليحدث عنه الفساد، ولذلك قيل لمن لا يحسن العمل : خرق ؛ وللمرأة : خرقاء، يعني أنهم كذبوا واختلفوا واتسعوا في هذا القول الكذب، وأبعدوا به في هذه المجاوزة عن حقيقته، اتساع من سار في خرق أي برية واسعة بهماء وسوفة جوفاء متباعدة الأرجاء إلى حيث لم يسبقه إليه بشر، فضل عن الجادة ضلالاً لا ترجى معه هدايته إلا على بعد شديد، فصار جديراً بالهلاك، وإلى ذلك يرجع معنى ما قرئ في الشاذ : وحرفوا - بالمهملة والفاء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٨٤
ولما لم يكن لقولهم أصلاً حقيقة ولا شبهة، وكان الخرق التقدير بغير علم، دل على ذلك مصرحاً بما أفهمه محققاً له تنبيهاً على الدليل القطعي في اجتياح قولهم من أصله، وذلك أنه قول لا حجة له، ومسائل أصول الدين لا يصار إلى شيء منها إلا بقاطع، وذلك بنكرة في سياق النفي فقال :﴿بغير علم﴾ ثم نزه نفسه المقدسة تنبيهاً
٦٨٨


الصفحة التالية
Icon