ولما انقضى التفصيل عند قوله ﴿فسوف يعلمون﴾ شرع في تفصيلها ثانياً بقوله :﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً﴾ [الأنعام : ١٣٦] إلى آخرها، والسر في الإعادة أن الشيء إذا أثبت أو نفي، وأقيمت الدلائل على إثبات ما ثبت منه ونفي ما نفي، ثم أعيد ذلك في أسلوب آخر، كان أثبت في النفس وألصق بالقلب، لا سيما إن كان في الأسلوب الثاني - كما هي عادة القرآن - زيادة في البيان وتنبيه على ما لم يتقدم أولاً، ولا سيما إن كانت العبارة فائقة والألفاظ عذبة رائقة وأنت خبير بأن هذا كله دأب
٧٠٦
القرآن في أساليب الافتنان ؛ قال الغزالي في أوائل كتاب الجواهر في الفصل الذي فيه اشتمال الفاتحة على ثمانية أقسام : وقوله ثانياً ﴿الرحمن الرحيم﴾ إشارة إلى الصفة مرة أخرى، ولا تظن أنه مكرر، فلا مكرر في القرآن، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة، وذكر الرحمة بعد ذكر ﴿العالمين﴾، وقبل ذكر ﴿العالمين﴾، وقبل ذكر ﴿مالك يوم الدين﴾ ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة ثم ذكر ما حاصله أن إحداهما ملتفت إلى خلق كل عالم من العالمين على أكمل أنواعه وأفضلها وإيتائه كل ما احتاج إليه، والثانية ملتفت إلى ما بعده بالإشارة إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد، قال : وشرح ذلك يطول والمقصود أنه لا مكرر في القرآن، وإن رأيت شيئاً مكرراً من حيث الظاهر فانظر إلى سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته - انتهى.
وفي ذلك نكتة أخرى، وهي أن الرحمن مشير إلى ما قال من جهة الربوبية في الإيجادين : الأول والثاني، والرحيم مشير بخصوصه بما ترضاه الإلهية إلى الإيجاد الثاني والإبقاء الثاني بالرحمة الجزائية وإلى ما يفهمه الخصوص من النعمة بمن لم يخصه الرحمة - كما مضت الإشارة إليه في الفاتحة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٧٠٣


الصفحة التالية
Icon