قلت : ولا ينكر اختصاص الأحكام ببعض المرسل إليهم دون بعض في شرع واحد في الأحرار والعبيد والنساء والرجال والحطّابين والرعاء بالنسبة إلى بعض أعمال الحج وغير ذلك مما يكثر تعداده - والله الموفق ؛ ومن تجرأ على نفي الرسالة إليهم من أهل زماننا بغير نص صريح يضطره إليه، كان ضعيف العقل مضطرب الإيمان مزلزل اليقين سقيم الدين، ولو كان حاكياً لما قيل على وجه الرضى به، فما كل ما يُعلَم يقال، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع، ولعمري! إن الأمر لعلى ما قال صاحب البردة وتلقته الأمة بالقبول، وطرب عليه في المحافل والجموع :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
ولما أثبت شهادة الله تعالى له بالتصديق بأنه محق، وكان ذلك ربما أوهم أن غير الله تعالى لا يعرف ذلك، لا سيما وقد ادعى كفار قريش أنهم سألوا أهل الكتابين فادعوا أنهم لا يعرفونه، أتبعه بقوله على طريق الاستئناف :﴿الذين آتيناهم﴾ أي بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى ﴿الكتاب﴾ أي الجامع لخيري الدنيا والآخرة، وهو التوراة
٦١٨
والإنجيل ﴿يعرفونه﴾ أي الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه، ولما هم بمثله آنسون مما أثبت به من المعجزات، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز، فهم يعرفون هذا الحق ﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ أي من بين الصبيان بحُلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها، وقد وضعتموهم موضع الوثوق، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي، فما لكم لا تتابعونهم! لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء.


الصفحة التالية
Icon