ولما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس، قال مشيراً إلى ذلك مع شموله لغيره :﴿والذين صبروا﴾ أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه، والصبر : الحبس، وهو تجرع مرارة المنع للنفس عما تحب مما لا يجوز فعله ﴿ابتغاء﴾ أي طلب ﴿وجه ربهم﴾ أي المحسن إليهم، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثاً عليه لا ليقال : ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة.
ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفاً لها فقال :﴿وأقاموا الصلاة﴾ لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له، وقال - :﴿وأنفقوا﴾ وخفف عنهم بالبعض فقال :﴿مما رزقناهم﴾ - لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد، فهذا إنفاق من المال، وتلك إنفاق من
١٤٦
القوى، وقال :﴿سراً وعلانية﴾ إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهاً على الإخلاص، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار كالنوافل، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع، وهذا تفصيل قوله تعالى ﴿ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة : ٣] ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة : ٤٥] وقال :﴿ويدرؤون﴾ أي يدفعون بقوة وفطنة ﴿بالحسنة﴾ أي من القول أو الفعل ﴿السيئة﴾ إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها، خوفاً ورجاء وحثاً على جميع الأفعال الصالحة، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين.
ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيباً، ختم هذه بمثل ذلك ترغيباً فقال :﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿لهم عقبى الدار*﴾ وبينها بقوله :﴿جنات عدن﴾ أي إقامة طويلة - ومنه المعدن وهي أعلن الجنان ؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال :﴿يدخلونها﴾.


الصفحة التالية
Icon