ولما كان الأرسال لم يعم جميع الأزمان فضلاً عن الاستهزاء، أدخل الجار فقال :﴿من قبلك﴾ لعدم إتيانهم بالمقترحات ؛ والاستهزاء : طلب الهزوء، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار ﴿فأمليت﴾ أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت ﴿للذين كفروا﴾ أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها، أي يمد في المرعى، ولم أجعل ذلك سبباً لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن ﴿ثم﴾ بعد طول الإملاء ﴿أخذتهم﴾ أي أخذ قهر وانتقام ﴿فكيف﴾ أي فكان أخذي لهم سبباً لأن يسأل من كان يستبطىء رسلنا أو يظن بنا تهاوناً بهم، فيقال له : كيف ﴿كان عقاب*﴾ فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير، وفي ضمنه وعيد شديد.
فلما تقرر - بما مضى من قدرته تعالى على الثوب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات - أن ليس لأحد غيره أمر ما، وتحرر أن كل احد في قبضته، تسبب عن ذلك أن يقال :﴿أفمن هو قائم﴾ ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله :﴿على كل نفس﴾ أي صالحة وغيرها ﴿بما كسبت﴾ - يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما - كمن ليس كذلك، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً.
ولما كان الجواب قطعاً : ليس كمثله شيء، كان كأنه قيل استعظاماً لهذا السؤال : من الذي توهم أن له مثلاً ؟ فقيل : الذين كفروا به ﴿وجعلوا لله﴾ أي الملك الأعظم ﴿شركاء﴾ ويجوز أن يقدرلـ " من " خبر معناه : لم يوحده، ويعطف عليه ﴿وجعلوا﴾، فكأنه قيل : فماذا يفعل بهم ؟ فقيل :﴿فقيل سموهم﴾ بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر،
١٥٤
عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قل لهم : أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده ﴿أم تنبئونه﴾ أي تخبرونه إخباراً عظيماً ﴿بما لا يعلم﴾ وعلمه محيط بكل شيء ﴿في الأرض﴾ من كونها آلهة ببرهان قاطع.


الصفحة التالية
Icon