ولما جرت سنته الإلهية أنه يذكر ابتداء الخلق دليلاً على الإعادة سابقاً ولاحقاً، وابتدأ هنا بذكر الحشر لما قام عليه من الدليل بإحياء الأرض، توقع السامع تفصيل ابتداء الخلق الذي هو أدل دليل على البعث بعد إجماله في قوله ﴿وإنا لنحن نحيي﴾ فقال مفتتحاً بحرف التوقع :﴿ولقد خلقنا﴾ أي بالعظمة الباهرة ﴿الإنسان﴾ أي الآنس بنفسه، الناسي لغيره ﴿من صلصال﴾ أي طين يابس، له عند النقر صلصلة أي صوت شديد متردد في الهواء، فإن كان فيه مد من غيرر ترجيع فهو صلل، فالمراد شديد يبسه ولكنه غير مطبوخ، وأما المطبوخ فهو فخار : ثم بين أصل الصلصال فقال :﴿من حمإٍ﴾ أي طين أسود منتن ﴿مسنون*﴾ أي مصبوب مهيأ لعمل ما يراد منه بالدلك والتحسين من الذهاب والإضطراب والجعل على طبع وطريقة مستوية، وكل ذلك على غاية السهولة
٢١٦
والطواعية والهوان، فذكر أصل الإنسان وما وقع له من إبليس - الذي هو أصل الجن كما أن آدم عليه السلام أبو البشر - من الكيد حتى أخرجه من دار الصفاء إلى دار الكدر، ليحذره العقلاء من بني آدم، وفي التنبيه بابتداء الخلق على وصول البشر إلى أصل كان بمحض القدرة مخالف لهم في التكوين بين أبوين، وانتهاء الجن إلى أصل ليس خلقه كخلقهم تنبيه عظيم على انتهاء الموجودات إلى موجود لا يجانسهم، بل هو خالق غير مخلوق، فاعل بالاختيار، واحد لا شريك له، ولا اعتراض عليه، قادر على ما يريد سبحانه، وفي خلقه من الماء - الذي هو كالأب - والطين - الذي هو كالأم - بمساعدة النار والهواء من الحكمة أن يكون ملائماً لما في هذا العالمن فيكون بقاءه بذلك الذي خلق منه في مأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره، وذلك أدل على حكمة الخالق وعلمه ووحدانيته.


الصفحة التالية
Icon