ولما كانت حقيقة المنكر ما خرج عن عادة أشكاله، ولم يكن على طريقة أمثاله، أضربوا عن قوله، وكان جوابهم أن ﴿قالوا بل﴾ أي لسنا منكرين لأنا ﴿جئناك﴾ لنفرج عنك أن نأتي بمثله من العذاب الذي كانوا يشكون فيه شكاً عظيماً، يحملون نفوسهم عليه ويكذبون به، والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه، من حيث إنه لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه ﴿وأتيناك بالحق﴾ الفاصل بينك وبينهم، الواقع بهم مطابقاً لإخبارنا ؛ والإتيان : الانتقال إلى جهة الشيء، والذهاب : الانتقال عنه ﴿وإنا لصادقون*﴾ في الإخبار بما يطابق الواقع.
ولما أخبروه بوقوع العذاب بهم، أمروه بما يكون سبباً فيما أمروا به من إنجائه، فقالوا :﴿فأسر﴾ فأتو بالفاء لأن ما بعدها مسبب عما قبلها ﴿بأهلك بقطع﴾ أي طائفة ﴿من الليل واتبع﴾ أي كلف نفسك أن تتبع ﴿أدبارهم﴾ لتكون أقربهم إلينا وإلى محل العذاب، لأنك أثبتم قلباً وأعرفهم بالله، والشر من ورائكم، وقد جرت عادة الكبراء أن يكونوا أدنى جماعتهم إلى الأمر المخوف سماحاً بأنفسهم وتثبيتاً لغيرهم، وعلماً منهم بأن مداناة ما فيه وجل لا يقرب من أجل، وضده لا يغني من قدر، ولا يباعد من ضرر، ولئلا يشتغل قلبك بمن خالفك، وليحتشموك فلا يلتفتوا، أو يتخلف أحد منهم - وغير ذلك من المصالح ؛ والدبر : جهة الخلف وهو ضد القبل ﴿ولا يلتفت﴾ أي أصلاً ﴿منكم أحد﴾ إذ لا فائدة فيه لأن الملتفت غير ثابت، لأنه إما غير مستيقين لخبرنا أو متوجع لهم، فمن التفت ناله العذاب، وذلك أيضاً أجد في الهجرة، وأسرع في السير، وأدل على إخراج ما خلفوه من منازلهم وأمتعتهم من قلوبهم، وعلى أنهم لا يرقون لمن غضب الله عليهم مع أنهم ربما رأوا ما لاتطيقه أنفسهم ﴿وامضوا حيث﴾ وتعبيره بالمضارع يشعر بأنه يكون معهم بعض الملائكة عليهم السلام في قوله :﴿تؤمرون*﴾.