ولما كان - مع مشاركته لغيره من الحيوان في كونه من نطفة - متميزاً بالنطق المستند إلى ما في نفسه من عجائب الصنع ولطائف الإدراك، كان ذلك أدل دليل على كما قدرة الفاعل واختياره، فقال تعالى :﴿فإذا هو﴾ أي الإنسان المخلوق من الماء المهين ﴿خصيم﴾ أي منطيق عارف بالمجادلة ﴿مبين*﴾ أي بين القدرة على الخصام، وموضح لما يريده غاية الإيضاح بعد أن كل ما لاحسّ به ولا حركة اختيارية عنده بوجه، أفلا يقدر الذي ابتدأ ذلك على إعادته! ولما صار التوحيد بذلك الشمس، وكان كل ما في الكون - مع أنه دال على الوحدانية - نعمة على الإنسان يجب عليه شكرها، شرع يعدد ذلك تنبيهاً له على وجوب الشكربالتبرؤ من الكفر، فقال مقدماً الحيوانات لأنها أشرف من غيرها، وقدم منها ما ينفع الإنسان لأنه أجلّ من غيره.
مبتدئاً بما هو أولاها بالذكر لأنه أجلّها منفعة في ضرورات المعيشة وألزمها لمن أنزل الذكر بلسانهم :﴿والأنعام﴾ أي الأزواج الثمانية : الضأن والمعز والإبل والبقر ﴿خلقها﴾ غير ناطقة ولا مبينة مع كونها أكبر منكم خلقاً وأشد قوة.
ولما كان أول ما يمكن أن يلقى الإنسان عادة من نعمها اللباس، بدأ به، فقال على طريق الاستئناف :﴿لكم فيها دفء﴾ أي ما يدفأ به فيكون منه حر معتدل من حر البدن الكائن بالدثار بمنع البرد، وثنى بما يعم جميع نعمها التي منها اللبن فقال :﴿ومنافع﴾ ثم ثلث بالأكل لكونه بعد ذلك فقال تعالى :﴿ومنها تأكلون*﴾ وقدم الظرف دلالة على أن الأكل من غيرها بالنسبة إلى الأكل منها مما لا يعتد به، ثم تلاه بالتجمل لأنه النهاية لكونه للرجال فقال تعالى :﴿ولكم﴾ أي أيها الناس خاصة ﴿فيها﴾ أي الأنعام ﴿جمال﴾ أي عظيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤٥


الصفحة التالية
Icon