ولما كان التقدير تفصيلاً لفريقي المبين لهم وترغيباً في الهجرة لأنها بعد الإيمان أوثق عرى الإسلام : فالذين كفروا واغتروا بما شاهدوه من العرض الفاني لنخزينهم في الدنيا والآخرة ولنجازينهم بجميع ما كانوا يعلمون، عطف عليه قوله تعالى :﴿والذين هاجروا﴾ أي أوقعوا المهاجرة فراراً بدينهم فهجروا آباءهم وأبناءهم وأقاربهم من الكفار وديارهم وجميع ما نهوا عنه ﴿في الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال، بعدما " تمادى " المكذبون بالبعث على إيذائهم، فتركوا لهم بلادهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٠
ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى :﴿من بعد ما ظلموا﴾ أي وقع ظلمهم من الكفار، بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الظلم لا كونه من معين ﴿لنبوئنهم﴾ أي نوجد لهم منزلاً هو أهل لأن يرجع إليه، بما لنا من الملائكة وغيرهم من الجنود وجميع العظمة ﴿في الدنيا﴾ مباءة ﴿حسنة﴾ كبيرة عظيمة، جزاء لهم على هدمتنا، بأن نعلي أمرهم وإن كره المشركون، كما يراه من تدبير بمعنى لأوليائي على قلتهم، وسينكشف الأمر عما قريب انكشافاً لا يجهله أحد، فالآية دليل على ما قبلها.
ولما كان التقدير : ولنبوئنهم في الآخرة أجراً كبيراً، عطف عليه قوله تعالى :﴿ولأجر الآخرة﴾ المعد لهم ﴿أكبر﴾ مما جعلته لهم في الدنيا ﴿لو كانوا يعلمون*﴾ أي لو كان الكفار لهم بجبلاتهم علم بأن يكون لهم عقل يتدبرون به لعلموا - بإحساني إلى أوليائي في الدنيا من منعي لهم منهم في عنادهم مع كثرتهم وقلتهم، وإسباغي لنعمي عليهم لا سيما في الأماكن التي هاجروا إليها من الحبشة والمدينة وغيرهما مع اجتهادهم في منعها عنهم - أني أجمع لأوليائي الدارين، وأن إحساني إليهم في الآخرة أعظم قال : خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكثر وأفضل - ثم تلا هذه الآية.