ولما كانوا - كما تقدم يدعون أنهم أعقل الناس، فكان اللائق بهم إرخاءً للعنان النسبة إلى معرفة اللوازم عند الإقدام على الملزومات، قال تعالى :﴿لتفتروا على الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿الكذب﴾ لأن من قال على أحد ما لم يأذن فيه كان قوله كذباً، وكان كذبه لقصد افتراء الكذب، وإلا لكان في غاية الجهل، فدار أمرهم في مثل هذا
٣١٩
بين الغباوة المفرطة أو قصد ما لا يقصده عاقل، وهذا باب من التهكم عجيب، فكأنه قيل : فما يستحقون على ذلك ؟ فأجاب بقوله تعالى :﴿إن الذين يفترون﴾ أي يقتطعون عمداً ﴿على الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿الكذب﴾ منكم ومن غيركم ﴿لا يفلحون*﴾.
ولما كان الفلاح عندهم هو العيش الواسع في هذه الدنيا، أجاب من كأنه قال : فإنا ننظرهم بنعمة ورفاهة ؟ فقال تعالى :﴿متاع قليل﴾ أي ما هم فيه لفنائه وإن امتد ألف عام ﴿ولهم﴾ بعده ﴿عذاب أليم*﴾ ومن ألمه العظيم دوامه فأيّ متاع هذا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٩
ولما بين لهم نعمته بتوسعته عليهم بما ضيقوا به على أنفسهم، بين لهم نعمة أخرى بتمييزهم على بني إسرائيل فقال تعالى :﴿وعلى الذين هادوا﴾ أي اليهود ﴿حرمنا﴾ أي بعظمتنا عقوبة لهم بعدوانهم وكذبهم على ربهم ﴿ما قصصنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي كان المقصوص بها معجزاً ﴿عليك﴾.
ولما لم يكن قص ذلك عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مستغرقاً زمان القبل، أدخل الجار فقال :﴿من قبل﴾ أي في الأنعام ﴿وما ظلمناهم﴾ أي الذين وقع منهم الهود بتحريمنا عليهم ما حرمنا ﴿ولكن كانوا﴾ أي دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمراً ﴿أنفسهم﴾ أي خاصة ﴿يظلمون*﴾ أي بالبغي والكفر، فضيقنا عليهم معاملة بالعدل، وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل، فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة.