ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده، أدخل الجار فقال تعالى :﴿من بعد نوح﴾ الذي أنتم ذرية من أنجيناه بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً، بوه صرح كثير من المفسرين في تفسير ﴿كان الناس أمة واحدة﴾ [البقرة : ٢١٣].
٣٧٠
ولما كان ذلك ربما أوجب ان يقال : كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره ؟ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة، تلطفاً بهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في جملة حالية :﴿وكفى بربك﴾ أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال ﴿بذنوب عباده﴾ أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات ﴿خبيراً﴾ من القدم، فهو يعلم السر وأخفى، وأما أنتم فلستم هناك، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين ﴿بصيراً*﴾ بها، إذا وقعت لا يخفي عليه شيء منها، وأما أتم فكم من شخص كنتم ترونه مجتهداً في العباردةن فإذا خلا بارز ربه بالعظائم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٠
ولما تقرر أنه سبحانه خبير بذنوبهم بعد تزهيده في الدنيا بما ذكر من مصارع الأولين، أتبعه الإخبار بأنه يعاملهم على حسب علمه على وجه معرف بعلمه بجميع طوياتهم من خير وشر، مرغب في الآخرة، مرهب من الدينا، لأنها المانعة من اتباع الرسل والتقيد بطاعتهم، خوفاً من نقص الحظ من الدينا بزوال ما هو فيه من الرئاسة والمال والانهماك في اللذة جهلاً بأن ما قدر لا يكون غيره سواء كان صاحبه في طاعة أو معصيته فقال تعالى :﴿من كان يريد﴾ أي إرادة هو فيها في غاية الإمعان بما اقتضاه طبعه المشار إليه بفعل الكون.