ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا - التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب - سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، مع كثرة الأنكاد، ودوام الأكدار، من الكد والتعب، والخوف والنصب كالزرع سواءن تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً، ثم تأخذ في الانتقاض والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره، قال تعالى :﴿المال والبنون﴾ الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها ﴿زينة الحياة الدنيا﴾ التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهمابما يرضي الله، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره، وسوء حياته وضرره ﴿والباقيات الصالحات﴾ وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا
٤٧٢
﴿لنبلوهم أيهم أحسن عملاً﴾ [ الكهف : ٧] وما بعده ﴿خير﴾ أي من الزينة الفانية.
ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له الوقت حاجته قال :﴿عند ربك﴾ أي الجليل المواهب، العالم بالعواقب، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل ﴿ثواباً وخير﴾ من ذلك كله ﴿أملاً*﴾ أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل، لأن ثوابها إلى بقاء، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما.


الصفحة التالية
Icon