ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهمن ذكر حالهم في استمرار جهلهم، فقال تعالى :﴿وراء الجرمون﴾ أي العريقون في الإجرام ﴿النار﴾ أي ورأوا، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف ﴿فظنوا﴾ ظناً ﴿أنهم مواقعوها ولم﴾ أي والحال أنهم لم ﴿يجدوا عنها مصرفاً*﴾ أى مكاناً ينصرفون إليه، فالموضع موضع التحقق، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا ﴿اتخذ الله ولداً﴾ [ الكهف : ٤] بغير علم ﴿وما أظن أن تبيد هذه أبداً﴾ [ الكهف : ٣٥]، ﴿وما أظن الساعة قائمة﴾ الكهف : ٣٦]، ﴿إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين﴾ [الجاثية : ٣٢] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها.
ولما كان الكلام في قوة أن يقال : صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار، فقامت دلائل الشريعة الجلائل، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر، عطف على ذلك :﴿ولقد صرفنا﴾ أي لما لنا من العظمة.
ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى :﴿في هذا القرءان﴾ أي القيم الذي لا عوج فيه، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات ﴿للناس﴾ أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين ﴿من كل مثل﴾ أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة، والأساليب المتناسقة، ما سار بها في غرابته كالمثل، يقبله كل من يسمعه، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد، بين العباد، فتبشير به قلوبهم، وتلهج به ألسنتهم، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه ؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى :﴿وكان الإنسان﴾ الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً ﴿أكثر شيء﴾ وميز الأكثرية بقوله تعالى :﴿جدلاً*﴾ لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان، الذي أضاء جميع الأكوان.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٨١


الصفحة التالية
Icon